فصل: ذكر فتح البهنسا وما فيه من الفضائل وما وقع فيه للصحابة رضي الله عنهم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتوح الشام (نسخة منقحة)



.ذكر خروج عيسى عليه السلام من مصر واقامته بأرض البهنسا:

قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] الآية وتقدم أنها البهنسا على اختلاف المفسرين قال أصحاب التواريخ وهم المسعودي وأبو جعفر الطبراني والواقدي وابن إسحاق وابن هشام وأصحاب السير وأهل التفسير مثل سعيد بن جبير وسعيد ابن المسيب وابن عباس ومن تكلم في هذا الكتاب العجيب الذي لو كتب بالذهب لكان قليلا وقد جمع فيه كتب كثيرة وتواريخ وتفاسير وفتوحات قالوا: كان مولد عيسى لمضي اثنتين وأربعين سنة من ملوك الطوائف وكانت الرياسة بالشام ونواحيها لقصير ملك الروم وهرقل كما تقدم في فتوح الشام وكان بالبهنسا قنطاريوس والله أعلم باسمه فلما سمع الملك هيردوس بخبر المسيح قصد قتله وذلك أنهم نظروا إلى نجمه وقد طلع فعرفوا ذلك بحساب لهم في كتاب لهم فبعث الله ملكا إلى يوسف النجار وأخبره بما اراد هيردوس وإن يعلم مريم أن تخرج إلى أرض مصر فإنه أن ظفر بولدك قتله فإذا مات هيردوس فارجعي إلى بلادك فاحتمل يوسف مريم وابنها عيسى على حمار له حتى دخل مصر وورد أرض البهنسا وهي الربوة التي ذكرها الله في كتابه العزيز وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين وهناك بئر في المعبد يستشفون بمائها من الأمراض وهي التي كانت مريم وابنها يستقيان منها ويتوضأن منها للصلاة وكان هناك سرب تحت الأرض قيل أن مريم لما دخلت بولدها أرض البهنسا وجدا بئرا وليس عليها رشاء فطلب عيسى عليه السلام الماء ليشرب بعد أن عطش عطشا شديدا وبكى فحزنت أمه فارتفع الماء من قعر البئر حتى شرب منه وهي من ذلك اليوم تزيد ويعرف منها زيادة النيل فجعل النصارى لها عيدا إلى يومنا هذا وهناك دير وزراعات والله أعلم ثم دخل مدينة البهنسا واقام بها اثنتي عشر سنة وأمه تغزل الكتان وتلتقط السنبل في أثر الحصادين حتى تم لعيسى المدة المذكورة.
روى محمد الباقر قال لما جاء عيسى إلى البهنسا وهو مع أمه له ابن شهرين كأنه ابن سنتين فلما كمل تسعة أشهر أخذته والدته وجاءت به إلى الكتاب بأرض البهنسا فأقعده المؤدب بين يديه و قال له: قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال عيسى بسم الله الرحمن الرحيم فقال له المؤدب: قل أبجد فرفع عيسى طرفه وقال أتدري ما أبجد فعلاه المؤدب بالدرة ليضربه فقال له: يا مؤدب لا تضربني أن كنت لا تدري فاسألني حتى أعرفك فقال قل لي فقال انزل من على مرتبتك فنزل من على مرتبته وجلس عيسى مكانه ثم قال الألف آلاء الله والباء بهاء الله والجيم جلال الله والدال دين الله والهاء هوية جهنم وهي الهاوية والواو ويل لأهلها والزاي زفير جهنم والحاء حطت الخطايا عن المستغفرين والكاف كلام الله لا مبدل لكلماته والصاد صاع بصاع والقاف قرب حيات جهنم من العاصين فقال لها المؤدب خذي بيد ابنك فقد علمه الله تعالى فلا حاجة له بالمؤدب.
حدثنا الحسين ومحمد بن الحسن المقري قال: حدثنا الحكيم محمد بن أحمد بن حمدون قال: حدثنا محمد بن حمدون بن خالد قال: حدثنا الحكم بن نافع عن اسمعيل عن ابن أبي مليكة عن عطية عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن عيسى عليه السلام ارسلته امه إلى المكتب ليتعلم فقال له المعلم: قل بسم الله الرحمن الرحيم فقال عيسى عليه السلام وما بسم الله الرحمن الرحيم فقال المعلم لا أدري فقال عيسى الباء بهاء الله والسين سناء الله والميم ملك الله» إلى آخر ما جاء من الآيات والمعجزات التي ظهرت لعيسى عليه السلام بأرض البهنسا قال وهب: كان أول آية أراها عيسى عليه السلام بمدينة البهنسا للناس في صغره أن أمه كانت نازلة في دار بالبهنسا من أرض مصر عند دهقان من دهاقنة الملك أنزلها فيها يوسف النجار عنده حين أتى بها من أرض الشام إلى مصر وكانت داره مأوى المساكين فسرق للدهقان مال جزيل من خزانته وكان الدهقان من أخصاء الملك صاحب البهنسا ولم يتهم المساكين فحزنت مريم على مصيبة الدهقان صاحب ضيافتها فلما رأى عيسى عليه السلام حزن أمه قال: يا أماه أتحبين أن أدلك على ماله قالت نعم قال قولي له يجمع المساكين الذين كانوا في جاره فقالت مريم للدهقان ذلك فجمع المساكين الذين كانوا في داره فلما اجتمعوا أتى إلى رجلين منهم أحدهما أعمى والآخر مقعد فجعل المعقد على كاهل الاعمى و قال له: قم به فقال له الاعمى: إني ضعيف عن ذلك فقال له: كيف قويت على ذلك البارحة فلما سمعوه يقول ذلك ضربوا الاعمى حتى قام به فلما استوى قائما وهو حامله أوصله إلى كوة الخزانة فقال عيسى عليه السلام هكذا أخذ مالك البارحة لأن الاعمى استعان بقوته والمقعد بعينه فقال الاعمى والمقعد صدقت فردا على الدهقان ماله فوضعه الدهقان في خزانته وقال: يا مريم خذي نصفه فقالت إني لم أخلق لذلك ثم قال الدهقان أعطيه لابنك قالت هو أعظم مني شأنا ثم لم يلبث الدهقان إلا قليلا وعمل لولده عرسا فجمع إليه أهل.
المدينة كلهم فكان يطعمهم شهرين فلما انقضى ذلك زارته أكابر البلاد وملوكها وليس عنده طعام ولا شراب ولا ادام فلما اجتمعوا أمر عيسى عليه السلام بجرار الخمر الفارغة أن تملأ ماء ثم مر بيده على أفواهها وهو يمشي فكلما مرت يده على جرة امتلأت شرابا هذا وهو ابن اثنتي عشرة سنة فازدادت أهل البهنسا فيه اعتقادا ومن حولها من المدائن والقرى والسواد من أرض مصر وله آية أخرى بأرض البهنسا.
قال السدى كان عيسى عليه السلام يحدث الصبيان في المكتب بما تصنع آباؤهم ويقول للغلام انطلق فقد أكل أهلك كذا وكذا فينطلق الصبي إلى أهله ويبكي عليهم حتى يعطوه شيئا فيقولون له من أخبرك بهذا فيقول عيسى فحبسوا أولادهم أي أهل البهنسا عنه وقالوا لهم: لا تلعبوا مع هذا الساحر فجمعوهم في مكان فجاء عيسى عليه السلام يطلبهم فقالوا: ليس هنا أحد فقال: ما في هذا البيت قالوا: خنازير قال عيسى كذلك يكونون أن شاء الله تعالى ففتحوا عليهم الباب فوجدوهم خنازير ففشا ذلك في الناس وهابه الناس قال السدى لما نزل عيسى عليه السلام بأرض البهنسا نزل في قرية من قراها على رجل فأضافهم وكان للملك خباز فجاء ذلك الرجل ذات يوم وهو مغتم حزين فدخل بيته ومريم عند زوجته فقالت لها مريم ما شأن زوجك أراه كئيبا قالت لا تسأليني فقالت لها أخبريني لعل الله أن يفرج عنك قالت لها أن ملك البهنسا إذا خرج من مدينته يجعل على كبير كل قرية يوما يطعمه ويسقيه الخمر فإن لم يفعل ذلك عاقبه واليوم علينا وليس عندنا سعة قالت مريم قولي له لا يهتم فإني آمر ابني أن يدعو له فيكفي ذلك فذكرت مريم ذلك لعيسى عليه السلام فقال عيسى عليه السلام أن فعلت ذلك يقع شيء فقالت له أمه: لا تبال فإنه أحسن الينا وأكرمنا.
فقال عيسى قولي له إذا قرب الملك فاملا قدورك وخوابيك ماء ثم اعلميني ففعل ذلك وإذا بالملك قد أقبل فارتجت الأرض من الطبور والزمور والصناجق وأقبلت العساكر فدعا عيسى عليه السلام ربه عز وجل فتحول ماء القدور لحما وطعاما ملونا وماء الخوابي خمرا لم ير الناس مثلها قط فلما أكل الملك ذلك الطعام وشرب سأل الدهقان من أين لك هذا الخمر قال من أرض الفيوم فلم يصدقه وقال للدهقان أنه يأتيني منها الخمر والعنب لعصره وليس يساوي هذا فقال من أرض أخرى فلما خلط عليه الكلام أنكر عليه فقال أنا أخبرك عندي غلام لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه وإنه دعا الله تعالى حتى جعل الماء خمرا وكان للملك ولد يريد أن يستخلفه فمات قبل ذلك بايام وكان أحب الخلق إليه فقال أن كان كلامك صدقا فليدع ربه أن يحيي لي ولدي فدعا عيسى وأعلمه بذلك قال أفعل لكنه أن عاش وقع شيء كثير فقال الملك لا.
أبالي بعد أن أراه فقال عيسى أن فعلت ذلك اتتركوني أنا وأمي نمضي حيث جئنا قال الملك نعم فدعا الله تعالى فاحيا الغلام فلما رآه أهل المملكة قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا: أكل أموالنا هذا الملك بظلمه حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتلوهما فذهب عيسى وأمه والآيات في ذلك كثيرة يطول شرحها ذكرها أبو إسحاق الثعلبي في عرائسه والله تعالى أعلم.

.ذكر فتح البهنسا وما فيه من الفضائل وما وقع فيه للصحابة رضي الله عنهم:

قالت الرواة بأسانيد صحيحة عمن حضر الفتح من أصحاب السير والتواريخ مثل الواقدي وأبي جعفر الطبراني وابن خلكان في تاريخ البداية والنهاية ومحمد بن إسحاق وابن هشام وكل منهم دخل حديثه الآخر لما في ذلك من اختلاف الرواة ممن حضر الفتوحات وشاهد الوقعات من الصحابة رضي الله عنهم قالوا: وحضر ذلك معظم الصحابة وكبراؤهم مثل عبد الله بن عمرو ابن العاص أمير الجيوش على مصر وأخيه محمد وخالد بن الوليد وابنه سليمان وقيس بن هبيرة المرادي والمقداد بن الأسود الكندي وميسرة بن مسروق العبسي والزبير بن العوام الاسدي وابنه عبد الله وضرار بن الازور ومن بني عم النبي صلى الله عليه وسلم مثل الفضل بن العباس وجعفر بن عقيل ومسلم بن عقيل وعبد الله بن جعفر ومن أبناء الخلفاء مثل عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وأبان بن عثمان رضي الله عنهم وقد اختصرنا في أسمائهم خوف الاطالة وكلهم حدثوا بما عاينوا من الفتوح وما شاهدوا من الوقعات وحدثوا بذلك ابناءهم رضي الله عنهم وقد أخذنا هذه الفتوح على قاعدة الصدق لاثبات فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم إذ لولاهم ما كانت البلاد للمسلمين ولا انتشر علم هذا الدين ولقد نفذت سراياهم في الأرض شرقا وغربا حتى ولت الاعداء منهم هربا وسكبوا دماءهم في الأرض سكبا واستباحوا أموال الكفار نهبا وسلبا والله قد جعل منهم في قلوب أعدائه خوفا ورعبا فهم نجوم الهداية وأهل الولاية قد شرعوا الشرائع ورتلوا القرآن ترتيلا قال الله في حقهم تعظيما وتبجيلا: {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 23].
قال: حدثنا ابو عبد الله محمد بن المحدث المصري غفر الله له اطلعت على فتوحات كثيرة فوجدت فيها زيادة ونقصانا وكذلك تواريخ منقولة وكنت قدمت المدينة يعني البهنسا لزيارة جبانتها لما رأيت في ذلك من الفضائل والفضل والاجر والخير والحبور فإن زيارتها تمحص الذنوب وتكشف الكروب وتحسن الاخلاق وتدر الأرزاق وتورث النصر على الاعداء وتكفي البأس والردى لما فيها من السادات الشهداء ممن باع نفسه لله وقتل في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله ممن قال في حقهم من له الفضل والمنة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] فهم أحياء عند ربهم يرزقون فزرنا الجبانة في ساعة الأسحار ورأينا ما فيها من الانوار وبزيارة قبور السادة والأخيار نرجو من الله أن يحط عنا الذنوب والأوزار فلما قضينا الزيارة ولاحت لنا تلك الاشارة أخبرنا عن تلك السادة الامجاد وما كان لهم من الصبر على الغزو والجهاد فسألني بعض الاصحاب عن سبب فتح مدينة البهنسا ليدفع البأس والردى فحرك لذلك خاطري حتى أسهرت لذلك ناظري وطالعت التواريخ والفتوحات وتجنبت المزاحات حتى انتخبت هذا الكتاب فهو كالدرة اليتيمة التي لا يعرف لها قيمة ترتاح عند سماعه النفوس ويزول لهم والبؤس ويشجع على الجهاد ويعين على اقامة العدل في البلاد ابتغاء لوجه الله الكريم راغبا في ثواب الله العميم وذلك بعد الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين ونحن نبتدىء.
بسم الله الرحمن الرحيم قال: حدثني من أثق به من الرواة ممن تقدم ذكرهم قال لما فتح عمر بن الخطاب رضي الله عنه مصر والاسكندرية والبحيرة والوجه البحري كله جميعا كان بالصعيد نوبة وبربر وديلم وصقالبة وروم وقبط وكانت الغلبة للروم كان أكثرهم روما ثم استشار عمرو بن العاس اصحابه أي جهة يقصد وهل يسير بالجيوش شرقا أو غربا وما يصنع فاشاروا عليه بمكاتبة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فكتب إليه يقول بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمرو بن العاص عامل أمير المؤمنين على مصر ونواحيها إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فإني أحمد الله واثني عليه واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام على من بالمدينة من المهاجرين والانصار والحمد لله قد فتحت لنا مصر والوجه البحري والاسكندرية ودمياط ولم يبق في الوجه البحري مدينة ولا قرية إلا وقد فتحت وأذل الله المشركين وأعلى كلمة الدين وقد اجتمعت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من السادات والأمراء والاخيار المهاجرين والانصار يطلبون الاذن من أمير المؤمنين هل يسيرون إلى الصعيد أو إلى الغرب والامر أمرك يا أمير المؤمنين فإنهم على الجهاد قلقون وباعوا نفوسهم لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى إله وصحبه اجمعين وسلم وكتب هذه الابيات:
صوارمنا تشكو الظمأ في اكفنا ** وأرحامنا تشكو القطيعة كالهجر

اليك افتقاد الحرب يا طيب الثنا ** ويامن أقام الدين بالعز والنصر

فقد ولعت خير الكرام إلى العدا ** بنوشيبة الحمد السري وبنو فهر

وصالت لؤي مع معد وغالب ** وسادات مخزوم الكرام ذوي المفخر

تروم مسيرا للأعادي على شفا ** تمكن من أعلاهم البيض كالسمر

ترى كل علج عائص في دلاصه ** تجعجع في نقع تأجج كالحمر

بكل كميت صادق الوعد صائل ** يرى درعه الزاهي تمكن بالصبر

نرى الموت في وقع الوقائع مغنما ** ونكسب من قتل العدا غاية الأجر

قال الواقدي: فلما فرغ عمرو بن العاص من الكتاب عرضه على أصحابه ثم طوى الكتاب وختمه واستدعى برجل يقال له سالم بن بجيعة الكندي وسلم إليه الكتاب ودفع له ناقة عشارية فاستوى على كورها وخرج يريد المدينة وهو يقول:
أسير إلى المدينة في أمان ** وأرجو الفوز في غرف الجنان

وأرجو أن يقرب لي اجتماعي ** وأعطي ما أريد من الاماني

إلا يا ناقتي جدي وسيري ** إلى نحو النبي بلا امتهان

وأقرئيه السلام وأنشديه ** كلاما صادقا حسن البيان

إلا يا أشرف الثقلين يا من ** به شرف المدينة والمكان

فكن لي في المعاد غدا شفيعا ** إذا ما قيل هذا العبد عاني

قال الواقدي: ولم يزل سائرا ليلا ونهارا حتى قدم المدينة الطيبة الأمينة بعد صلاة العصر فدخل وأناخ ناقته على باب المسجد وعقلها بفضل ذمامها ودخل في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم على قبره الشريف وصلى ركعتين بين القبر والمنبر ثم تقدم فوجد عمر بن الخطاب فسلم عليه قال فرد علي السلام وصافحني وكان لما رآني أقبلت وأنا فرحان قال سالم جاء بكتاب من مصر مرحبا به ثم التفت وعن يمينه علي بن أبي طالب وعن شماله عثمان بن عفان وحوله من السادات والمهاجرين والانصار مثل العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف وسعيد بن زيد وطلحة بن عبد الله وبقية الصحابة رضي الله عنه حوله ثم ناولته الكتاب فقال: ما وراءك يا سالم فأنت سالم في الدنيا والآخرة أن شاء الله تعالى فقلت الخير والبشرى والأمن يا أمير المؤمنين فلما قرأ الكتاب فرح واستبشر وكانت تلك الغنائم قد وصلت إلى المدينة قبل ذلك بأيام وقسمت على الصحابة رضي الله عنهم ثم إنه استشار عمر رضي الله عنه علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ومن حضر فاشار عليه علي بن أبي طالب أن عمرو بن العاص لا يسير بنفسه ليكون أهيب له في قلوب أعدائه وإن يجهز جيشا عشرة آلاف فارس ويؤمر عليهم خالد بن الوليد رضي الله عنه فإنه سيف الله فقال عمر صدقت وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خالد سيف الله تعالى» وفي رواية: «أن خالدا سيف لا يغمد عن أعدائه» ثم بات سالم تلك اليلة فلما اصبح صلى الصبح في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على أمير المؤمنين عمر يساله الجواب فعندها استدعى عمر رضي الله عنه بداوة وقرطاس ثم كتب كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله على مصر ونواحيها عمرو بن العاص سلام عليك ورحمة الله وبركاته أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والسلام عليك وعلى من معك من المهاجرين والانصار ورحمة الله وبركاته وقد قرأت كتابك وفهمت خطابك فإذا قرأت كتابي هذا فاستعن بالله واربط الخيل وارسل الأمراء لكل بلد أمير ليقيموا شرائع الدين ويعلموا الاحكام.
ثم انتدب عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر عليهم خالد بن الوليد وأرسل معه الزبير بن العوام والفضل بن العباس والمقداد بن الأسود وغانم بن عياض الاشعري ومالكا الاشتر وجيمع الأمراء واصحاب الرايات ينزلون على المدائن ويدعون الناس إلى الإسلام فمن أجاب فله ما لنا وعليه ما علينا ومن أبي فليأمروه بأداء الجزية وإن عصي وامتنع فالحرب والقتال وأمرهم إذا حاصروا مدينة أن يشنوا الغارات على السواد وإن بمصر مدينتين كما بلغني أحداهما يقال لها أهناس قريبة من مصر والثانية يقال لها البهنسا أمنع وأحصن وبلغني أن بها بطريقا طاغيا سفاكا للدماء يقال له البطليوس وهو أعظم بطارقة مصر كما بلغني وإنه ملك والواحات فلا تقربوا الصعيد حتى تفتحوا هاتين المدينتين وعليك بتقوى الله في السر والعلانية انت ومن معك وأنصف المظلوم من الظالم وأمر بالمعروف وإنه عن المنكر وخذ حق الضعيف من القوي ولا تأخذك في الله لومة لائم وأقم أنت بمصر وأرسل الأجناد وإن احتجت إلى مدد فارسل وكاتبني وأنا ارسل لك المدد والمعونة من الله عز وجل وأسأل الله تعالى أن يكون لكم بالنصر والمعونة والفتح والحمد لله رب العالمين ثم طوى الكتاب وختمه بخاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفعه إلى سالم فاخذه وودع الصحابة وودع قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن توضأ وصلى ركعتين وسار ولم يزل سائرا حتى قدم مصر فوجد عمرا والصحابة نازلين بأرض الجيزة وكان زمن الربيع وهو جالس في خيمته وأصحابه عنده وهذه الخيمة كانت لملك القبط من الحرير الأزرق والأحمر والاصفر سعتها ثلاثون ذراعا وقد فرش فيها فرشا كان للقبط وهو جالس يتحدث مع المقداد وخالد والفضل وغانم والأمراء جميعهم رضي الله عنهم وهو كأحدهم قال سالم فانخت ناقتي فسمعت عمرا يقول وأنا خلف الخيمة قد أبطا سالم فقال خالد: كأنك به وقد أقبل فهويت فأحس خالد بي من داخل الخيمة ولم يرني بعينه ولا غيره ولا علم بي فقال سالم فقلت لبيك يا أبا سليمان فقال مرحبا بك يا سالم وحياك الله ثم تقدمت وسلمت على عمرو وخالد وعلى بقية الأمراء ثم ناولته الكتاب فقرأه إلى آخره وفهم ما فيه فلما سمع الأمراء ما فيه فرحوا بذلك فرحا شديدا ثم أن عمرا استشار الأمراء في ذلك وكانوا لا يفعلون شيئا إلا بمشورة بعضهم ولذلك مدحهم الله في كتابه العزيز بقوله عز وجل وأمرهم شوري بينهم فأشاروا عليه أن يرسل خلف الأمراء والجنود المتفرقة في البحيرة شرقا وغربا وإن يرتب الجيوش ويقصدوا الصعيد ويتوكلوا على الله عز وجل.
قال الواقدي: وكانت الصحابة لما فتحت مصر والوجه البحري قد تفرقوا فمنهم في الاسكندرية وأمسوس ودمياط ورشيد وبلبيس وكان أكثرهم بوسط البحيرة في المكان المعروف بالمنزلة مثل القعقاع بن عمرو التميمي وهاشم بن المرقال وميسرة بن مسروق العبسي والمسيب بن نجيبة الفزاري فعندها استدعى عمرو رضي الله عنه بالنجابة والسعادة وعمرو ابن أمية الضمري ومثل هؤلاء رضي الله عنهم أجميعن وكتب الكتب وأرسلها للأمراء فعندها أجابوا بأجمعهم لأنهم رضي الله عنهم كانوا أشوق للقتال من العطشان للماء البارد الزلال وتركوا في البلاد والمدائن من يحفظها أو يحرسها خيفة من العدو واقبلوا نحو مصر مسرعين ونزلوا حولها وأخبر عمرو رضي الله عنه بقدومهم فدخل دار الامارة وهي قريبة من الجامع العمري واقبلت السادات والأمراء يسلمون عليه وكان ذلك نهار الاربعاء عاشر شهر ربيع الاول سنة احدى وعشرين من الهجرة النبوية وقيل اثنتين وعشرين والله أعلم.
قال: حدثنا محمد بن عبد الله احدثنا عبيد بن رافع عن ابيه جحيفة عن جابر بن عبد الله الانصاري وحدث بذلك ابن سلمة رضي الله عنه قالوا: لما قدمت الأمراء والاجناد من الصحابة رضي الله عنه أقاموا الاربعاء والخميس والجمعة فخطب عمرو رضي الله عنه بالناس فلما فرغ من خطبته أمر الناس أن لا يتفرقوا حتى يقرأ عليهم كتاب أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب فقرأ عليهم الكتاب فلما فرغ من قراءته تواثبوا كلهم كالاسود الضارية المشتاقة إلى فرائسها وقالوا: كلهم سمعنا وأطعنا ولارواحنا في سبيل الله بذلنا وللجهاد طلبنا وفي الثواب رغبنا والى الجنة اشتقنا ففرح عمرو بذلك وقال أن أمير المؤمنين قد أمرني أن أولي عليكم سيف الله والنقمة على أعداء الله صاحب القتال الشديد والبطل الصنديد خالد بن الوليد.
قال الواقدي: وكان خالد بن الوليد صديق عمرو في الجاهلية وأسلما في يوم واحد ثم التفت عمرو إلى خالد وقال ادن مني يا أبا سليمان فدنا منه فقال عمرو يا معاشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم كلكم لكم الفضل وإني لست بأفضلكم وفيكم من هو ذو قرابة ونسب من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنتم تعلمون ما فتح الله على يديه من البلاد وما أذل الله على يديه من الاجناد.
قال الواقدي: فوثب الفضل بن العباس رضي الله عنه وقال: أيها الأمير انا بذلنا أنفسنا في رضا الله عز وجل وما نريد بذلك إلا رفعة عند الله عز وجل وإن خالدا من أخيارنا ولو أمرت علينا عبدا حبشيا لامتثلنا أمره في رضا الله عز وجل فناهيك بخالد وهو سيد من سادات قريش عزيز في الجاهلية والإسلام فتهلل وجه خالد وعمرو فرحا ثم أمرهم بالنزول جميعا بأرض الجيزة قريبا من الهرم الشرقي وأقبلوا يضربون خيامهم حوله حتى تكاملت العساكر رضي الله عنهم أجمعين.
قال الراوي: بسنده إلى الواقدي وابن إسحاق وابن هشام لما تكاملت الجيوش وذلك في ربيع الآخر من السنة المذكورة صلى عمرو بأصحابه صلاة الصبح ثم قام من ساعته يمشي على قدميه وحوله جماعة من المسلمين ومعه خالد بن الوليد والمقداد ابن الاسود الكندي والزبير العوام الاسدي والفضل بن العباس الهاشمي وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وهاشم بن المرقال والمسيب بن نجيبه الفزاري والعباس بن مرداس وأولاد عبد المطلب وبقية السادات حتى طلع على رابية وأشرف على الجيش فلما رأى اجتماعهم سر سرورا عظيما ثم أمر بعرض الجيش فتقدمت الأمراء أصحاب الرايات وصار كل أمير يعرض جيشه وبني عمه على عمرو بن العاص فكانت عدتهم فيما ذكر والله أعلم ستة عشرة ألف فارس فانتدب منهم عشرة آلاف فارس كلهم ليوث عوابس وعليهم الدروع الداودية متقلدين بالسيوف الهندية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية من خيار أمة خير البرية فعند ذلك قال لهم عمرو: يا معاشر الأمراء أصحاب الرايات والسادات الأخيار أن خالدا أمير عليكم فاسمعوا له وأطيعوا وكونوا كلمة واحدة ونازلوا المدائن والقلاع وشنوا الغارات على السواد ولا تقاتلوا قوما حتى تدعوهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإن محمدا رسول الله فإن أبوا فأداء الجزية فإن أبوا فالقتال بينكم وبينهم: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] وأرسلوا الطلائع ولا يكون في الطلائع إلا كل فارس كرار في الحرب والقتال وثبتوا أنفسكم ولا يغرنكم كثرة أعدائكم فانتم الغالبون فقد ذكر الله في كتابه المكنون المبين: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] وأحسنوا نياتكم وثبتوا عزائمكم فأنتم الغالبون والله معكم وأنتم كلكم أهل الفضل والسابقة واصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقاتلتم بين يديه ولا تحتاجون إلى وصيتي بارك الله فيكم.
قال الراوي: ثم أن عمرا استدعى بأصحاب الرايات فكان أول من تقدم بعد خالد الزبير ابن العوام رضي الله عنه وهو راكب على جواده الاغر شاك سلاحه فسلمه الراية وأمره على خمسمائة فلما خرج بعسكره هز الراية وأنشد يقول.
أنا الزبير ولد العوام ** ليث شجاع فارس الإسلام

قرم همام فارس هجام ** اقتل كل فارس ضرغام

وانني يوم الوغى صدام ** وناصر في حانها الإسلام

قال ثم استدعى بالفضل بن العباس وأمره على خمسمائة فارس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتسلم الراية بيد وتوجه وهو يقول:
اني أنا الفضل أبي العباس ** وفارس منازل حواس

معي حسام قاطع للراس ** وفالق الهامات والاضراس

أفني به الاعدا بلا الباس ** وما على فيهم من باس

قال ثم استدعى بزياد بن أبي سفيان بن الحرث بن عبد المطلب وسلمه الراية وكان رضي الله عنه فارسا عظيما وبطلا صنديدا فتسلم الراية وتوجه وهو ينشد:
أنا الفارس المشهور يوم الوقائع ** بحد حسام في الجماجم قاطع

ورمحي على الاعداء ما زال طائلا ** إذا التحم الاعداء للضد قاطع

وعزمي في الهيجاء ما زال ماضيا ** براي سديد للمحاسن جامع

أصول على الاعداء صولة قادر ** وأشبعهم ضربا ببعض لوامع

إمام الوغى من آل ذروة هاشم ** حماة البرايا كالبدور الطوالع

أنا ابن أبي سفيان من نسل حارث ** تموت العدا مني وكل منازع

قال ثم استدعى من بعده عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي عنه وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
أسير إلى الاعادي باهتمام ** بقلب صادق حصن الذمام

بابطال جحاجحة أسود ** سراة في الوغى قوم كرام

أبيد بهم عداة الدين جمعا ** ولا أخشى من القوم اللئام

إذا ما جلت في الهيجا برمحي ** أصول به وفي أيدي حسامي

قال ثم استدعى من بعده عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأمره على خمسمائة فارس فتسلم الراية وتوجه وهو يقول:
وحق من أنزل الآيات في السور ** وأرسل المصطفى المبعوث من مضر

لا أنثني عن لقا الاعدا ولو جمعت ** حماة أبطالهم يوما كما الدبر

حتى أبيدهم ضربا وأتركهم ** فوق الثري خمشا مخدوشة الصدر

بكل قرم همام ماجد نجد ** إلى الوقائع يوم الحرب مبتدر

نحن الكرام الذيب للدين أرسلنا ** امام دين الورى غيث النداعمر

قال ثم استدعى من بعده جعفر بن عقيل وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
أنا ابن عقيل من لؤي وغالب ** همام شجاع للأعادي غالب

حماة الوغى أهل الوفا معدن الصفا ** إلى جود يمنانا مسير الركائب

ولا يعرف المعروف إلا بعرفنا ** ولا الجود إلا جودنا كالمواهب

علا مجدنا فوق الثنا وسناؤنا ** علا شرفا من فوق كل الكتائب

فيا ويل أهل البغي منا إذا التقت ** فوارسنا فيهم بحد القواضب

قال ثم استدعى من بعده أخاه الفضل وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتسلمها وتوجه وهو يقول:
إني أنا الفضل أبي عقيل ** أسير للحرب بلا تمهيل

بحد سيف قاطع صقيل ** به أبيد الكافر الجهول

أنا ابن عم أحمد الرسول ** المرسل المبعوث في التنزيل

قال ثم استدعى من بعده المقداد ابن الاسود الكندي وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
أنا المقداد في يوم النزال ** أبيد الضد بالسمر العوالي

وسيفي في الوغى أبدا صقيل ** طليق الحد في أهل الضلال

معي من آل كندة كل قرم ** يجيد الطعن في يوم النزال

فياويل العدا والروم منا ** إذا التحم الفوارس في القتال

وهم صرعى كأعجاز نخل ** بقعها الفوارس بالنصال

قال ثم استدعى من بعده عمار بن ياسر وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
أنا الهمام الفارس الكرار ** أفني بسيفي عضبة الكفار

أن جالت الخيل بلا انكار ** وقام سوق الحرب من عمار

حمى لدين المصطفى المختار ** صلى عليه الواحد القهار

وآله وصحبه الأخيار ** ما بان ليل وأضا نهار

قال ثم استدعى من بعده العباس بن مرداس السلمي وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
أنا العباس ذو رأي قويم ** معي سادات آل بني سليم

أدل بهم حماة البغي لما ** ترى الهيجاء كالليل البهيم

وسيفي ماضي الحدين أضحى ** لأهل الشرك والموت العميم

به أفنى الطغاة بكل أرض ** وأقتل كل أفاك أثيم

ونحن بنو سليم خير قوم ** هدينا للصراط المستقيم

قال ثم استدعى من بعده أبا دجانة الأنصاري رضي الله عنه وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
أسير باسم الواحد المنان ** جهرا لاهل الكفر والطغيان

أذيقهم ضربا على الابدان ** بكل هندي مبيد الجان

أنصر دين مصطفى العدناني ** صلي عليه الملك الديان

وآله والصحب والاخوان ** ما ناح قمري على الاغصان

قال ثم استدعى من بعده غانم بن عياض الاشعري رضي الله عنه وسلمه الراية وتوجه وهو يقول:
إني إذا انتسب الفوارس أشعري ** قرم همام في المعامع عنتزي

بحماة ابطال الاعادي نزدري ** وبراحتي من القواضب أبتري

يوم التلاطم للفوارس مسكر ** وأحوم حومات الغزال الجؤذري

فلأقتلن فوارسا وعوابسا ** وأذيقهم مني العذاب الأكبر

قال ثم استدعى من بعده أباذر الغفاري وأمره على خمسمائة فارس وسلمه الراية فتوجه وهو يقول:
سأمضي للعداة بلا اكتئاب ** وقلبي للقا والحرب صابي

ولي عزم أذل به الاعادي ** وأرجو الفوز فيهم كالثواب

وإن صال الجميع بيوم حرب ** لكان الكل عندي كالكلاب

أذلهم بأبيض جوهري ** طليق الحد فيهم غير أبي

قال ثم استدعى من بعده القعقاع بن عمرو التميمي والمغيرة بن شعبة الثقفي وميسرة بن مسروق العبسي ومالكا الاشتر النخعي وذا الكلاع الحميري والوليد وعقبة بن عامر الجهني وجابر ابن عبد الله الانصاري وربيعة بن زهير المحاربي وعدي بن حاتم الطائي ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم وقد اقتصرنا في أشعارهم خوف الاطالة وكل واحد يسلمه راية ويؤمره على خمسمائة فارس قال فلما تكاملوا وتجهزوا خرج عمرو وأصحابه فودعهم وسارت الكتائب وتتابعت المواكب يطلب بعضها وخلفهم الذراري والصبيان حتى أتوا الجيزة ونزلوا بمكان يعرف بالمرج الكبير قريب من تلك المدائن والقرى والرساتيق وتقدمت الطلائع يتجسسون الاخبار وقد كان بدهشور بطريق عظيم من قبل مارنوس صاحب اهناس وكان فارسا مكينا وكلبا لعينا قاتله الله وكان يقول في نفسه أنه يناظر البطليوس في ولايته لكن البطليوس صاحب البهنسا لعنه الله كان أشد بأسا وأعظم مراسا وأكثر عددا وأقوى مددا وأوسع بلادا فكاتبه في ذلك وكاتب روسال صاحب الاشمونين وكاتب اقراقيس صاحب قفط وكان يحكم على اخميم وكاتب الكيكلاج وكان يحكم إلى عدن والبحر المالح إلى بلاد البجاوة والنوبة وحد السودان وتسامع الناس بمسير العرب إلى الصعيد وكاتبت الملوك بعضها بعضا وماج الصعيد بأهله إلى حد الواحات ووقع الرعب في قلوبهم فعند ذلك وثب مكسوج ملك البجاوة وحليف ملك النوبة وجمعوا ما حولهم من أرض النوبة والبجاوة والبربر وأتوا إلى أسوان.
وكان مع ملك البجاوة ألف وثلثمائة فيل عليها قباب الجلد بصفايح الفولاذ في كل قبة عشرة من السودان طوال القامة عراة الاجساد على أوساطهم واكتافهم جلود النمور وغيرها ومعهم الدرق والحراب والكرابيج والقسي والمقاليع والاعمدة الحديد والطبول والقرون وكانت عدتهم عشرين ألف فلما وصلوا أسوان خرجوا إلى لقائهم بعسكرهم وأعلموهم بأمرهم وساروا إليهم بالملاقاة من الذرة والشعير والقصب ولحوم الخنازير والضباع وغيرها من الوحوش فأنزلوهم وضيوفهم ثلاثة ايام ثم خرج بطريق أسوان ومعه جيش حتى وصلوا إلى ملك قفط صاحب القرية القريبة من قوص وعمل معهم مثل ذلك وسير معهم جيشا وساروا حتى وصلوا إلى أنصنا وكان بها بطريق عظيم وبطل جسيم وكان منجما وكان يحكم شرقا وغربا وكانت مدينته عظيمة على شاطىء البحر وبها جند كثير وعجائب عظيمة ولها حصن عظيم من الحجر علوه ثلاثون ذراعا ومن داخلها قصور ومقاصير وكنائس وقلاع على أعمدة الرخام وغيرها في المدينة فلما نزلت تلك العساكر على أنصنا خرج إليهم بطريقها جرجيس بن قابوس وتلقاهم وأرسل معهم ابن عم له يسمى قيطارس وكان فارسا شديدا في أربعة آلاف فارس ولم يزالوا سائرين حتى نزلوا بواد البهنسا عند بطريق يسمى قلوصا من بطارقة البطليوس فلما سمع بهم البطليوس خرج إلى لقائهم في عسكر عظيم زهاء من خمسين الف فارس من البطارقة وعليهم الدروع المذهبة واقبية الديباج المرقومة بالذهب الوهاج وعلى رؤوسهم التيجان المكللة بالآليء والجواهر راكبين على خيول وبراذين مسرجة عليها سروج الذهب والجنائب مغطاة بأغشية من الحرير الملون المرقوم بالذهب والفضة والخز وكان معهم خمسون صليبا طول كل صليب أربعة أشبار من الذهب تحت كل صليب ألف فارس على كل صليب رمانة من الذهب المنقوش وهم في زي عظيم عجيب وقد أكثروا من الطبول والزمور وضرب القرون والمعازف حتى ارتجت الأرض ومعهم الجمال والبغال والجاموس فلما التقوا ترجلت الملوك والبطارقة للقائهم وسلم بعضهم على بعض وتكلموا فيما بينهم بسبب العرب فقال لهم البطليوس: لا تطعموا العرب فيكم ولا في بلادكم فإنما مثل العرب 2 كمثل الذباب أن تركته أكل وإن منعته فر وهلك فاثبتوا واصدقوا العزم فلقد كاتبت لكم سنجاريب ملك برقة وكاتبت ملك الواح وكأنكم بهم قد أتوا اليكم ولولا أنني أخشى أن العرب يأتون إلى بلادي لما يسمعون إني خرجت إليهم فيشتغل جماعة بقتالكم وجماعة يأتون إلى بلادي فيملكونها وليس فيها من يذب عنها إذا خرجت معكم لكنت في خدمتكم فانا نجد في الكتب القديمة أنهم إذا ملكوا البهنسا ونواحيها فلا تقوم لاهل الصعيد قائمة قال كرماس الرومي وكان ممن أسلم بعد ذلك وحضر وحدث به يا معاشر الملوك والبطارقة إني قد اطلعت على الكتب القديمة وفيها أنهم أن ملكوا البهنسا ونواحيها فلا تقوم لاهل الصعيد بعد ذلك قائمة قال فلما سمع الملوك ذلك صقعوا له ثم انتدب من بطارقته عشرين ألفا ممن عرفت شجاعتهم وبراعتهم وملك عليهم صاحب الكفور وكان كافرا طاغيا وكان اسمه بولص وكان لعينا ودفع له صليبا من الذهب وعلما من الحرير الاطلس الاصفر مرقوما بالذهب فيه صورة الشمس ودفع لهم ما يحتاجون له من الجنائب والقباب والسرادقات ومضارب الديباج الملون وأواني الذهب والفضة والصناديق المملوءة بالذهب والفضة والبراذين والبغال وعليها أحمال الحرير الملون وبعضها محمل بالاواني المذكورة والخيام والسرادقات وسارت العساكر وتتابعت الملوك بالمواكب يتلو بعضها بعضا حتى قربوا من مدينة ببا الكبرى فخرج إليهم بطريقا صندراس وتلقاهم وفعل معهم كما فعل البطليموس وأضافهم وجهز معهم جيشا عشرة آلاف فارس من صناديد بطارقته وولي عليهم بطريقا اسمه دارديس وكان يناظر بطريق الكفور في الشجاعة والقوة والبراعة وساروا حتى قربوا من مدينة برنشت فخرج إليهم بطريقها فتلقاهم وكان يناظر البطريق الاعظم رأس بطارقة الكوة ولم يزالوا سائرين حتى ملؤوا الأرض شرقا وغربا هذا ما جرى لهؤلاء.
قال الراوي: وأما ما كان من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم لما نزلوا قريبا من دهشور كما ذكرنا وكانت العيون من المسلمين من بني طي ومذحج ينزلون ويتزيون بزي العرب المتنصرة يتجسسون الاخبار حتى اختلطوا بالعساكر المذكورة وكانوا حذاقا متفرسين فلما رأوا ذلك هالهم أمره.
قال الراوي: حدثني سنان بن قيس الربعي عن طارق بن مكسوح الفزاري عن زيد بن غانم الثعلبي وكان ممن حضر الفتوح وشهد الوقعة صحبة جيش خالد بن الوليد رضي الله عنه قال بينما نحن جلوس نصلح شأننا بالمرج ونحن على أهبة السفر إذ قدمت الجواسيس فأخبروا خالدا بقدوم العساكر فقال لهم: هل حزرتم الجيوش فقالوا: نعم نحو مائتي ألف فارس وخمسين الف راجل من النوبة والبربر والبجاوة والفلاحين وغيرهم هم في اهبة عظيمة ومعهم الف وثلثمائة فيل وعلى ظهورها الرجال كما وقع في يوم حرب العراق فلما سمع الأمراء ذلك اضطربوا وثبتوا جنانهم وقالوا: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51] وقال خالد: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قرأ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] ثم قرأ: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249] ثم أن خالد قال لأصحابه: ولا تهتموا لذلك واصبروا: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] فليست جموعهم بأكثر من جموع اليرموك ولا من جموع أجنادين ومع ذلك فقد ملكتم مصرهم التي هي تاج عزهم وملكتم الوجه البحري وقتلتم مائة من ملوكهم وبطارقتهم وقد صارت الشام واليمن والعراق والحجاز بايديكم وقد دانت لكم البلاد وقد كنتم قليلا فكثركم الله وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها وقاتلتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرتم بالملائكة ووعدكم على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم أنه يستخلفكم في الأرض كما استخلف الذين من قبلكم ومن قتل منكم كان له الجنة وتنتقل روحه إلى روح وريحان ورب غير غضبان فلما سمعوا كلامه تهللت وجوههم فرحا وقالوا: يا خالد نحن كلنا بين يديك وقد وهبنا أنفسنا لله ابتغاء وجه الله ومرضاته.
قال الواقدي: ثم أن خالدا وجه يزيد بن معرج التنوخي إلى عمرو بن العاص مسرعا وأعلمه بذلك فترك في مصر ابن عمه خارجة وكان رجلا صالحا وأخرج معه أربعة آلاف فارس وترك في مصر نحو أربعين فارسا من اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجاء إليهم أربعة آلاف فارس فلما أقبلوا سلموا عليه وقالوا: كنا نحن نكفيك أيها الأمير.
فقال لهم: اعلم ذلك ولكنكم في أول بلاد العدو وما ينبغي أن أقعد عنكم ففرحوا بذلك وتأهبوا للقاء العدو وكانوا كل يوم يخرجون الطلائع يتجسسون الاخبار فلما كان في بعض الايام خرج الفضل ابن العباس بن عبد المطلب وأخوه عبد الله بن العباس وجعفر بن عقيل وأخواه علي ومسلم وعبد الله بن الزبير وسليمان بن خالد بن الوليد ومحمد بن فرحة بن عبد الله وعبد الله بن المقداد وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر بن سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وزياد بن المغيرة بن شعبة وتبعهم من السادات نحو أربعمائة سيد من أولاد الصحابة والأمراء أصحاب الرايات وألف وستمائة من أخلاط العرب من المهاجرين والانصار ولبسوا دروعهم وتقلدوا بسيوفهم واعتقلوا برماحهم وتنكبوا بحجفهم وساروا إلى قريب من دير هناك بسفح الحبل يعرف بدير المسيح يكشفون الاخبار فبينما هم كذلك إذا بغبار طلع إلى عنان السماء وانعقد فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا: هذا غبار وحش وقال بعضهم لو كان كذلك لكان تقطع قطعا وتفرق فرقا وإنما هذا عسكر جرار وإن الخيل إذا داست بحوافرها ارتفع الغبار.
قال الواقدي: حدثنا أبو الزناد عن عبد الله عن أبي مالك الخولاني عن طارق بن شهاب الجرهمي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال بينما نحن نتحدث مع الفضل وإذا بالغبار قد قرب منا وانكشف عن عشرة آلاف فارس ومعهم الأعلام والصلبان فلما رأونا رطنوا بلغتهم ثم لم يمهلوا دون أن حملوا.
قال الراوي: وكان ضرار بن الأزور قد انفرد ومعه مائتان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل النجدة وساروا في طريق الجبل على غير الجادة فبينما هم يسيرون إذا بالغبار قد ثار وانكشف عمن ذكرنا فلما عاينوهم أيقنوا بالهلاك فعندها وثب ضرار رضي الله عنه وقال: لا فرار من الموت فلم يمهلوهم دون أن داروا عليهم فرأوا أن لا بد لهم من القتال والتقت الرجال بالرجال وصبروا صبر الكرام وأحاطت بهم الروم اللئام من كل جانب ومكان فلله در ضرار لقد قاتل قتالا شديدا فلم يكن غير ساعة حتى قتل من جماعة ضرار جماعة وكبابه جواده فأسروه وأسروا جماعة من أصحابه وكان الذي قاتلهم رأس البطارقة صاحب ببا الكبرى فأوثقوا ضرارا وأصحابه كتافا وربطوهم على ظهور خيولهم وأرسلوهم إلى العسكر وانفلت من القوم مولى من موالي عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق يقال له سالم: فسار يجد في مسيره حتى قدم على خالد وعمرو فعند ذلك وثب المسيب بن نجيبة الفزاري ورافع بن عميرة الطائي وأخذا معهما ألفا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار ومعهما رجل من أسلم من الجيزة يدلهم على طريق غير الجادة وكمنوا هناك عند الدير وقد سبقوا البطريق الذي أسر ضرار وأصحابه وقد أختفى عنهم الأثر فقال الدليل أظنكم قد سبقتم القوم اكمنوا ههنا وكان الذي مضى بضرار وأصحابه خمسمائة فارس.
قال الراوي: وكانت خولة بنت الأزور قد شق عليها أسر أخيها ضرار فلما سار المسيب ورافع وجماعتهما في طلب أخيها تهللت فرحا واسرعت في لبس سلاحها وأتت إلى خالد وقد هم القوم بالمسير وقالت أيها الأمير سألتك بالطاهر المطهر إلا ما سيرتني مع هؤلاء عسى أن أكون مشاهدة لهم فقال خالد للمسيب ورافع: أنتما تعلمان شجاعتها وبراعتها فخذاها معكما فقالا السمع والطاعة ونزلوا بالمكان المذكور فبينما هم كذلك كامنون إذا بغبرة قد لاحت لهم فقال لهم رافع: أيقظوا خواطركم فأيقظت القوم هممهم فإذا بهم قد أتوا محدقين بضرار وهو متألم من كتافه وهو ينشد ويقول:
إلا بلغا قومي وخولة أنني ** أسير رهين موثق اليد بالقيد

وحولي علوج الروم من كل كافر ** وأصبحت معهم لا أعيد ولا أبدي

فلو أنني فوق المحجل راكبا ** وقائم حد الغضب قد ملكت يدي

لأذللت جمع الروم اذلال نقمة ** وأسقيتهم وسط الوغى أعظم الكد

فيا قلب مت هما وحزنا وحسرة ** ويا دمع عيني كن معينا على خدي

فلو أن أقوامي وخولة عندنا ** وألزم ما كنا عليه من العهد

كبابي جوادي فانتبذت على الوغى ** وأصبحت بالمقدور ولم أبلغن قصدي

قال الراوي: فنادته خولة من مكمنها قد أجاب الله دعاك وقبل تضرعك ونجواك أنا خولة ثم كبرت وحملت وكبر رافع والمسيب قال جبير بن سالم وكنا إذا كبرنا تصهل الخيل الهاما من الله تعالى فما كان أكثر من ساعة حتى قتلناهم عن آخرهم وخلص الله ضرار وأصحابه وأخذنا خيل القوم وأسلابهم وسلاحهم وكانت أول غنيمة.
قال الراوي: ولما تخلص ضرار وأصحابه ركب جواده عريانا وأخذ قناة كانت مطروحة وحمل على القوم وهو يقول:
لك الحمد يا مولاي في كل ساعة ** مفرج أحزاني وهمي وكربتي

فقد نلت ما أرجوه من كل راحة ** وجمعت شملي ثم أبرأت علتي

سافني كلاب الروم في كل معرك ** وذلك والرحمن أكبر همتي

فيا ويل كلب الروم أن ظفرت يدي ** به سوف أصليه الحسام بنقمتي

وأتركهم قتلى جميعا على الثرى ** كما رمة في الأرض من عظم ضربتي

قال الراوي: فلما فرغ ضرار من شعره إذا بالخيل قد اقبلت منهزمة وكان السبب في ذلك أنه لما حملت الروم على الفضل بن عباس صاح هو وجرت الدماء واسودت السماء وحمى الوطيس وقل الأنيس وهمهمت الابطال وقوي القتال وعظم النزال ودارت رحى الحرب واشتد الطعن والضرب وجالت الرجال واشتد القتال وضربت الاعناق وسالت الاحداق وعظمت الامور وغابت البدور وكان المسلمون لا يظهرون فيهم لكثرتهم ولا يعرف بعضهم بعضا إلا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وقد صبر الفضل صبر الكرام فلله در الفضل لقد اصطلى الحرب بنفسه فكان تارة يقلب الميمنة على الميسرة وتارة يقلب الميسرة على الميمنة ويقاتل والراية بيده ولله در مسلم بن عقيل وأخويه لقد قاتلوا حتى صارت الدماء على دروعهم كقطع اكباد الابل ولله در سليمان بن خالد بن الوليد المقتول بوقعة الدير قريبا من طرا بقرية تسمى دهروط وقتل معه عبد الله بن المقداد وجماعة وسيأتي ذكر ذلك أن شاء الله تعالى.
قال محمد بن مسلمة الأنصاري رضي الله عنه وقاتلنا قتال الموت وأيقنا أن المحشر من ذلك الموضع ولم نزل في قتال من ارتفاع الشمس حتى غربت وقد قتل من الروم مقتلة عظيمة وتقدم الفضل إلى بطريق عظيم راكب كأنه برج من ذهب وطعنه في صدره فأخرج السنان من ظهره فلما رأت الروم ذلك شجعوا أنفسهم وفشا القتال بيننا وبينهم وقتل من المسلمين أربعون رجلا وقتل منهم ثلثمائة لكن الرجل ما قتل منا حتى قتل جماعة من الروم فبينما نحن كذلك وقد أيقنا أن الموت في ذلك الموقف ووطنا عليه نفوسنا وإذا بغبرة قد طلعت والعجاج قد ارتفع وانقشع الغبار عن رايات إسلامية وعصابة محمدية زهاء من ألفي فارس وفي أوائلهم فرسان أمجاد سادات أنجاد أحدهم المقداد والثاني زياد والقعقاع بن عمرو وشرحبيل بن حسنة ومعهم ألف فارس فلم يمهل المقداد دون أن حمل وخاض في الخيل وهو ينشد ويقول:
إلا انني المقداد أكبر صائل ** وسيفي على الاعداء أطول

طائل إذا اشتدت الأهوال كنت أمامها ** وأضرب بالسمر الطوال الذوابل

ولي همة بين الورى تردع العدا ** لها تشهد الابطال بين القبائل

فليس لسيفي في الأنام مبارز ** وليس لشخصي في الأنام منازل

ثم إنه خاض في وسط الحرب وحمل من بعده زياد بن أبي سفيان وهو ينشد ويقول:
أنا زياد بن أبي سفيان ** جدي يرى من أشرف العربان

كذا ابن عمي أحمد العدناني ** معي حسام ثم رمح ثاني

أطعن كل كافر جبان ** وكل قلب ناقص الإيمان

قال الراوي: ثم غاص في وسط القوم فقلب الميمنة على الميسرة والميسرة على الميمنة وغاص في القلب فولت الروم من بين يديه منهزمين وهو يضرب السيف فيهم طولا وعرضا ثم حمل من بعده القعقاع بن عمرو التميمي وهو ينشد ويقول:
أنا الهمام الفارس القعقاع ** ليث همام ضيغم مطاع

معي حسام يبرىء الأوجاع ** ويقطع الهامات والأضلاع

يا ويل أهل الشرك والنزاع ** مني إذا في الحرب طال الباع

قال ثم حمل من بعده شرحبيل بن حسنة وهو يقول:
ألا يا عصبة الإسلام صولوا ** على الأعداء بالسيف الصقيل

اذيقوهم حياض الموت جهرا ** بلذع السمهري الرمح الطويل

وموتوا في الوغى قوما كراما ** شدادا في المعامع والنزول

قال الراوي: ثم تتابعت الفرسان يتلو بعضها بعضا هذا وزياد غائص في القوم كما ذكرنا وقصد البطريق الأعظم صاحب ببا الكبرى وضربه على عتاتقه الايمن بالسيف فاطلع السيف يلمع من عاتقه الايسر وقد أجابته المسلمون بتكبيرة واحدة وكبرت الجبال وارتجت الأرض لوقع حوافر الخيل وحمل كل أمير على بطريق فقتله فلم تكن إلا ساعة حتى ولوا الأدبار وركنوا إلى الفرار لا يلوي بعضهم على بعض وتبعهم المسمون يقتلون ويأسرون حتى بلغت الهزيمة جرزة وميدوم فبينما ضرار وأصحابه مقبلون وإذا بالروم منهزمة كما ذكرنا وخيل المسلمين في أثرهم يقتلون ويأسرون ولم يعلموا ما جرى لضرار ورفقته فلما رأوه سلموا عليه وهنئوه وأصحابه بالسلامة فقص عليهم ما جرى لهم واجتمعوا بالمسيب وأصحابه وأروهم مكان المعركة ومكان القتلى ففرحوا بذلك فرحا شديدا.
قال الراوي: وإن عمرا وخالدا لما خرج الفضل وأصحابه قلق عليهم فقال خالد لعمرو: يا أبا عبد الله لقد غرر الفضل وأصحابه بمن معه من المسلمين وإني أخضى أن تكون للروم طليعة فيغيروا على أصحابنا قال عمرو كذلك هجس بخاطري يا أبا سليمان فما ترى من الرأي قال خالد: الرأي عندي أن أرسل طليعة أخرى خلفهم قال: نعم الرأي ثم استدعى بالزبير بن العوام وأبي ذو الغفاري رضي الله عنهم وأعلمهما بذلك واراد خالد أن يركب معهما فمنعه الزبير وحلف لا يسير إلا هو وانتخب معه فرسانا فساروا حتى قربوا من القوم والتقوا بالمسلمين فوجدوهم قد كسروا الروم كما ذكرنا ثم جمع المسلمون الأسلاب والسلاح والخيل ورجعوا إلى أصحابهم وهم فرحون بالنصر على أعدائهم.
قال الراوي: فلما رجع المسلمون إلى العسكر وكان معهم ستمائة أسير أعلن المسلمون بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير فأجابهم المسلمون كذلك ولما عاينوا الاسلاب والاسارى معهم فرحوا بذلك وسلم بعضهم على بعض وتلقاهم عمرو وخالد وباقي الأمراء تفاءلوا بالنصر وقدموا الأسارى وعرضوهم على عمرو وخالد واوقدوا النيران بالمرج وباتوا يقرءون القرآن ويتضرعون إلى الله الواحد المنان وليس فيهم إلا من هو راكع أو ساجد.
قال الراوي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما المنهزومون فإنهم مضوا إلى البطارقة والملوك وأخبروهم بما وقع من أمرهم فعظم عليهم من قتل واستعدوا للقتال وركبوا خيولهم وابلهم وافيالهم وتزينوا بزينتهم وساروا يجدون المسير وقد اكثروا الطبول والزمور والصنوج.
قال قيس بن الحرث وأقام المسلمون بعد الوقعة يوما فبينما نحن في اليوم الثاني بعد صلاة الصبح وكان الاجاويد من الأمراء والابطال في كل يوم يركبون ويستنشقون الاخبار فبينما هم ينتظرون إذ ثار الغبار حتى تعلق بالجو وانكشف عن رجال وخيول كالجراد المنتشر والسيل المنحدر وارتجت الأرض من ازدحام الخيل وقعقعة اللجم فرجعوا وأعلموا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاح الصائح في العسكر النفير النفير يا خيل الله اركبي في الجنة ارغبي والثواب اطلبي فتواثب المسلمون إلى قدومهم ولبسوا دروعهم والى خيولهم فركبوها والى راياتهم فنشروها والى زينتهم فأظهروها والى قلوبهم من الغش فطهروها ونفوسهم لله باعوها فلم تكن إلا ساعة حتى استعدوا وأقام خالد وعمرو يعبيان قومهما للقتال فجعلا في القلب أصحاب الطعن والضرب مثل الفضل بن العباس وبني عمه من سادات بني هاشم وهم جعفر ومسلم وعلى أولاد عقيل بن أبي طالب وزياد بن أبي سفيان بن الحرث ومثل هؤلاء الابطال وجعل في الجناح الايمن الزبير بن العوام والمقداد بن الاسود الكندي والمسيب بن نجيبة الفزاري وجعل في الجناح الايسر القعقاع بن عمرو التميمي وهاشم بن المرقال وغانم بن عياض الاشعري وأبا ذر الغفاري وجابر بن عبد الله الانصاري ومثل هؤلاء السادات رضي الله عنهم وثبت خالد وعمرو في القلب ومعهما عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعقبة بن عامر الجهني وبقية الصحابة من الأمراء اصحاب الرايات ممن شهد الوقائع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن عبد الله ابن زيد عن أبي امامة رضي الله عنه وكان من أصحاب الرايات قال فبينما نحن كذلك إذا باعلام المشركين قد انتشرت وراياتهم قد ظهرت وزينتهم وصلبانهم قد ارتفعت ولغتهم بالكفر قد طمطمت وأفيالهم قد أقبلت ورجالهم للقتال قد تبادرت فلما رأى المسلمون ذلك أخلصوا نياتهم ولم يهلهم ما رأوا من عدوهم وتضرعوا بالدعاء لخالقهم وقد استغاثوا بمالكهم وأكثروا من الصلاة على نبيهم ولم يزالوا سائرين حتى قربوا من القوم ورأوهم راي العين فعند ذلك أمسك المشركون أعنة خيولهم وسلاسل أفيالهم وألقى الله الرعب في قلوبهم ثم خرج منهم بطريق من عظماء بطارقتهم كأنه برج مشيد من ذهب وهو لا يبين منه غير حماليق الحدق وتدوير المآق وبين يديه فارس من متنصرة العرب وهو يصيح بملء فيه يا معاشر العرب ارسلوا إلى الملك أحدا يكلمه فاعلم المسلمون عمرا وخالد بن الوليد بذلك فأراد خالد أن يخرج إليه فمنعه الأمراء من ذلك فعندها وثب المقداد بن الأسود وحلف لا يخرج إليه إلا هو بنفسه فقال عمرو وخالد يا أبا عبد الله انظر ما يكلمك به الاعلاج وادعهم إلى كلمة الاخلاص المنجية يوم القصاص فإن أبوا فالجزية عن يد وهم صاغرون فإن أبوا قاتلناهم: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109].
قال الواقدي: فعندها ركب المقداد جواده وسار حتى وقف بين يدي البطريق وكان ذلك بولص صاحب الكفور الطاغي اللعين بطريق البطليوس وقد أتى باذن الملك والبطارقة فلما رآه كلمه بلسان عربي مبين ثم قال: يا بدوي أأنت أمير قومك قال: لا قال فإني لا أريد إلا الأمير حتى أسأله عما بدا لي لعل أن تكون فيه مصلحة بينكم وبيننا فقال المقداد سل عما بدا لك وما تريد فانا قوم إذا فعل أحدنا أمرا وفيه نصح للدين ومصلحة للمسلمين لا ينكر عليه ذلك ويجيز له الأمير ما فعل فاخبرني عن أمرك وشأنك قال: لا يكلمني إلا أمير القوم وإن كان عنده خوف مني ألقيت سلاحي فقال المقداد وقد ضحك من كلامه ويحك يا عدو الله لو كنت أنت وامثالك باسلحتهم ما فكرنا فيهم وإن الواحد منا لو وقع في ألف منكم لتلقاهم بنفسه ولا أهمه ذلك والمعونة من الله تعالى فانا وطنا أنفسنا على الموت ونعلم أن هذه الدنيا فإنية ولا يبقى إلا وجه الله تعالى فاسألني عما بدا لك فقال له: لا اسمع إلا كلام الأمير فدع عنك كثرة المطاولة قال المقداد أن لنا أميرين أحدهما متولي الامر والآخر قائد الجيوش فأي أمير تريد قال أخبرني بأسمائهما قال أما الذي هو متولي الامر فيسمى عمرو بن العاص والآخر يسمى خالد بن الوليد قال إني أريد خالدا سمعت عنه أمورا وأحوالا وإن الروم تتحدث عنه بعجائب كثيرة.
قال الواقدي: وكان الملعون قد سمع بذكر خالد وفراسته وقال في نفسه لعلي أغدره فإني أن قتلته كان لي الفخر على جميع الروم وينكسر بذلك ناموس العرب وإن لم أقدر عليه أسمع ما يقول من خطابه قال فعند ذلك لوى المقداد عنان جواده ورجع إلى خالد فعند ذلك قال خالد لأصحابه: أن المقداد قد رجع وإن عدو الله لا يريد إلا اياي فإن طلبني مضيت إليه وإن رأيت منه غدرا أخذت روحه من بين كتفيه وأستعين عليه بالملك العلام.
قال الراوي: فبينما خالد يتحدث بهذا الكلام إذا بالمقداد قد وصل وأعلم عمرا وخالدا بما وقع فعندها خرج خالد رضي الله عنه مبادرا عليه لامة حربه فتعلق به أكابر أصحابه فحلف أنه لا بد له من الخروج إليه ثم خرج مبادرا حتى وقف بين يديه فلما رأى خالدا قد وصل إليه احترز على نفسه وأراد أن يخدع خالدا ويهجم عليه فقال خالد: أيها البطريق ها أنا خالد سل حاجتك والذي جئت به وإياك والمخادعة فإني جرثومة الخداع فقال بولص يا خالد اذكر في الذي تريد وقرب الأمر بيننا وبينكم واحقن دماء الناس واعلم إنك مسئول عن ذلك وواقف غدا بين يدي الله عز وجل فإن كنت تريد شيئا من الدنيا فلن نبخل به عليكم وندفعه صدقة منا اليكم لانه ليس عندنا في الأمم أضعف منكم حالا وقد علمنا أنكم كنتم في بلادكم قبل أن تفتحوا البلاد في قحط وجوع وتموتون هزالا وقد ملكتم بلادا وشبعتم لحما وركبتم خيولا مسومة وتقلدتم بسيوف مجوهرة وسعدتم بعد فقركم وفاقتكم فإن طلبتم منا شيئا أعطيناكم إياه بطيبة قلوبنا فلا تطمعوا في بلادنا كما طمعتم في غيرها واقنعوا منا بالقليل قال فلما سمع مع خالد مقالته قال: يا كلب النصرانية وأخس من غمس في ماء المعمودية أنه قد بعث الله الينا نبينا فهدانا من الضلالة وأنقذنا من الجهالة واننا قد ملكنا الله بأيدينا ما أغنانا به عن صدقتكم وأحل لنا أموالكم وأباح لنا نساءكم وأولادكم إلا أن تقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله فإن أبيتم ذلك فتؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون فإن أبيتم ذلك فالسيف حكم بيننا وبينكم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين والله ينصر من يشاء وإن الحرب والقتال أحب الينا وأشهى من الصلح وإن كنتم تزعمون أنه لم تكن أمة أضعف منا عندكم فأنتم عندنا بمنزلة الكلاب فإن الواحد منا يقاتل منكم ألفا وإن هذا ليس بخطاب من يطلب الصلح فإن كان هذا الطمع ترجو به أن تصل الي بانفرادي عن أصحابي فذلك منك بعيد وإن أردت القتال فدونك فإني كفء لك ولأصحابك أن شاء الله تعالى فلما سمع بولص كلام خالد وثب في سرجه وقال: ليس لك عندي إلا هذا السيف ثم جرد سيفه ودنا من خالد رضي الله عنه وشابكه وضرب بيده في درعه ومنطقته ووثب كل منهما على الآخر واستغاث الملعون بأصحابه وقال لهم: بادروا الي فقد أمكنني الصليب من أمير العرب فابتدر إليه البطارقة من كل جانب وخرج كردوس عظيم أكثر من مائتي فارس وجردوا السيوف وأتوا إلى خالد رضي الله عنه.
فلما رآهم خالد مقبلين إليه وثب وثبة الأسد وصاح بجواده وانتزع نفسه من البطريق بعد أن أحاطت به الروم وجاء كردوس ثان وخالد يضرب فيهم يمينا وشمالا وعدو الله بولص يصيح ويقول يا ويلكم خذوه قبل أن يفوتكم قال: وكان ضرار والفضل بن العباس وعلي بن عقيل وعبد الله بن المقداد وسليمان بن خالد رضي الله عنهم على كثيب قريب من الروم فلما رأوا الروم والسيوف بايديهم وقد أحاطوا بخالد ركضوا خيولهم وكان أول من ابتدر للحرب ضرار بن الأزور رضي الله عنه وهو ينشد:
عليك ربي في الأمور المتكل ** اغفر ذنوبي أن دنا مني الأجل

يارب وفقني إلى خير العمل ** وعني امح سيدي كل الزلل

انا ضرار الفارس القرم البطل ** باعي على الأعداء اضحى المنصل

اقمع بسيفي الروم حتى يضمحل ** مالي سواك في الامور من أمل

قال الراوي: حدثنا رفاعة بن قيس قال: حدثنا حامد بن عياض عن ابيه عن جده عن نافع بن علقمة الربعي قال كنت في القلب في عسكر عمرو يوم وقعة الروم بمرج دهشور قال بينما نحن ننظر إذ راينا السيوف جذبت وأحاطت بخالد بن الوليد فخرجنا كردوسا من أجاويد الرجال من طرف الميمنة وبادرناهم ولحقناهم وإذا قد سبق من ذكرنا يعني ضرارا والجماعة المذكورين فكان أول من قدم على الروم ضرار وهو عريان بسراويله قابضا على سيفه وهو يزأر كالاسد والقوم من ورائه متبعوه حتى وصلوا وضرار أمامهم وهو واثب على جواده وثبة الاسد مسرعا وهو يهز السيف وهو زاحف على بولص فارتعدت فرائصه وقال: يا خالد دعني من هذا الشيطان واقتلني أنت ولا تدعه يقتلني فإني أتشاءم من طلعته فقال هو قاتلك لا محالة هذا مبيد الأقران هذا قاتل وردان وملك التركمان ومبيد عبدة الصلبان ومن يكفر بالرحمن فبينما هم في المجاورة وإذا بضرار قد أقبل وهز سيفه وصرخ يا عدو الله لم تغن عنك خديعتك شيئا ولا غدرك بصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أراد أن يضربه بسيفه فصاح به خالد اصبر يا ضرار حتى آمرك بقتله ووصلت إليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل يبادر إلى قتله فقال لهم خالد: اصبروا قال: ونظر بولص لعنة الله إلى ما حل به وقد جذبه ضرار من قربوس سرجه واقتلعه وجلد به الأرض فغشى عليه فأشار بأصبعه وقال الأمان يا خالد فقال له خالد: يا كلب النصرانية لا يعطى الأمان إلا لأهل الأمان أنت رجل أردت أن تمكر والله خير الماكرين فلما سمع ضرار ذلك لم يمهله دون أن ضربه بالسيف على عاتقه الايمن فاطلع السيف يلمع من عاتقه الايسر فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وتبادرت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ووضعوا السيف فيهم فلما رأى الروم ما حل بهم حملوا بأجمعهم وتقدمت أصحاب الفيلة وعلى ظهورها الرجال والتقى الجمعان واصطدم الفريقان واشتد القتال وعظم النزال وصفت الصفوف وازدحمت الالوف وتلفت النفوس وقطعت الرؤوس وبطل القيل والقال وقتلت الرجال وزمجرت الابطال واشتد القتال واتسع المجال وعظم البلاء واسودت السماء وثار الغبار وقدحت حوافر الخيل الشرار وطمطمت السودان وكفروا بالرحمن وثار العجاج وزمجرت الاعلاج وقاتلت أصحاب الفيلة قتالا شديدا وقد قسموهم أربع فرق فرقة مما يلي الميمنة وفرقة مما يلي الميسرة وفرقة مما يلي القلب وفرقة مما يلي العسكر وتصايحت النوبة والبجاوة والروم فلله در خالد بن الوليد لقد قاتل قتالا شديدا فكان تارة في القلب وتارة في الميمنة وتارة في الميسرة وكذلك الأمير عمرو بن العاص والزبير بن العوام والفضل بن العباس الهاشمي والقعقاع بن عمرو التميمي وغانم بن عياض الاشعري رضي الله عنهم على الساقة مع النساء والولدان والذراري والصبيان وانقطع عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وهاشم بن المرقال إلى كردوس ينوف على ألف فارس من الروم والسودان فغاصوا في أوساطهم وكان فيهم بطريق من بطارقة الكورة اسمه عرنان بن ميخائيل فلما رأى ما حل به وبأصحابه بادر إلى الصليب ليقبله وينظر إليه ثم رطن الروم بلغتهم وأحاطوا بأصحاب رسلول الله صلى الله عليه وسلم وأرادوا أن يتمكنوا منهم فعندها وثب عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه إلى ذلك البطريق فحمل عليه وكان عليه ديباجة صفراء من فوق درعه وعلى رأسه بيضة تلمع كأنها كوكب وفي وسطه منطقة من الجوهر فتعاركا مليا وتصادما سويا ثم أن عبد الرحمن ضربه بالسيف في نحره فأطاح رأسه عن بدنه فلما رأى الروم ذلك حملوا على عبد الرحمن وأصحابه بأجمعهم حملة واحدة وصبر لهم اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل منهم مشتغل بنفسه عن نصرة صاحبه وايقنوا بالهلاك وخرج عبد الرحمن وفي يده جرح هائل والدم يسيل عن درعه فتناول السيف بيده اليسرى وجعل يقاتل بها وجرح هاشم بن المرقال أحد عشر جرحا في يده وفي وجهه وهو يمسح الدم مرارا فأيقنوا بالهلاك.
وكان الفضل بن العباس وبنو عمه ممن ذكرنا تارة في الميمنة وتارة في الميسرة وحملوا في اعراض القوم حتى وصلوا الكردوس الذي فيه عبد الرحمن وعبد الله بن عمر وهاشم بن المرقال فوجدوا الروم قد أحاطوا بعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعقروا جواده من تحته وأصحابه يذبون عنه وعبد الله بن عمر تارة يمنع عنه بالسيف وتارة بالرمح وجراحاته تتدفق دما وقد جرح عبد الله بن عمر في يده ست جراحات هائلة فلما رأى الفضل ذلك بادر هو واصحابه وكانوا عشرين فارسا وخرقوا الصفوف وضرب فارسا ممن أحاط بعبد الرحمن على رأسه فقطع البيضة ونزل إلى أضراسه فانجدل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فلما سقط عن جواده ابتدره عبد الرحمن وركب الجواد وقاتلوا أولئك حتى دفعوهم عن أصحابهم وكانت جماعة من الأوس وهمدان مما يلي الجناح الايسر فعطف عليهما كردوس من الروم والسودان فأزالوهم عن أماكنهم وكشفوهم عن مراتبهم وفروا بين أيديهم فصاح بهم أبو هريرة رضي الله عنه وابنه عبد الله ومالك ابن الاشتر يا قوم لا تولوا فرارا من الموت أتريدون أن تكونوا عارا عند العرب فما عذركم غدا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أما سمعتم قول الله عز وجل: {فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 15, 16] الآية الله الله الجنة تحت ظلال السيوف والموعد عند قبر المصطفى قال فلم يلتفتوا إليهم ولم يقبلوا كلامهم ووصلت الهزيمة إلى غانم بن عياض الاشعري وأصحابه والنساء والصبيان فلما رأت النساء ذلك صحن في وجوههم وفعلن كما فعلن يوم اليرموك وصرن يضربن وجه الخيل بالأعمدة وقاتلت خولة بنت الازور قتالا شديدا فلما رأى غانم ذلك وكان معه قيس بن الحرث ورفاعة بن زهير المخزومي وخمسمائة فارس من أهل العدة والنجدة صاح غانم النجدة يا أصحاب رسول الله فتواثبوا إليهم وحملوا عليهم حملة واحدة بصدق نية وثبات فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين.
قال الواقدي: ولم يزل السيف يعمل في الرجال من أول النهار إلى وقت العصر وأنزل الله النصر على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الافيال والرجال الذين على ظهورها تضرب أصحاب رسول الله صلى بالنشاب فجاء مفرج بن عيينة الفزاري إلى فيل مقدم على أربعمائة فيل فطعنه في احدى عينيه فاشتبك الرمح في عينه وما قدر أن يجذبه فبرطع الفيل هاربا وألقى ما على ظهره من الرجال وداسهم برجليه فقتلهم فتبعته الفيلة التي خلفه وألقت ما على ظهورها من الرجال ودراستهم بأرجلها فصاح مفرج دونكم وخراطيمها ومشافرها فإنها مقاتلة فابتدر بنو فزارة وبنو قراد وبنو عبس يضربون مشافر الفيلة حتى قتلوا منها مائة وستين فيلا وقتلوا من على ظهورها من الرجال ولم يزل القوم في الكر والفر والقتال الشديد حتى جاء الليل وحجز الفريقين ورجعت الروم والسودان إلى أماكنهم وتفقد المسلمون من قتل منهم فإذا هم مائتان وأربعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة وتفقد المشركون قتلاهم فإذا هم خمسة آلاف من النوبة والبجاوة والروم فبات المسلمون يتحارسون إلى الصباح ويقرءون القرآن ويدفنون قتلاهم فلما أصبح الصباح وقاموا إلى اصلاح شأنهم إذا بالروم والسودان قد أقبلوا بعددهم وعديدهم وقد اظهروا زينتهم واصطفوا خمسة كل صف أربعون ألفا والمشاة بين أيديهم خمسون ألفا قال قيس بن علقمة لقد دخلت الشام والعراق ورأيت جنود كسرى والجرامقة واليرموك وأجنادين ووقعة مصر والقبط وفتح اسكندرية ودمياط فلم أر مثل كسرتهم في مرج دهشور فلما رأيناهم وقد ركبوا ركب خالد وجعل يتخلل الصفوف ويقول لهم إنكم لستم ترون بمصر والصعيد جيوشا بعد هذا اليوم مثل هؤلاء وإن كسرتموهم فلا تقوم لهم قائمة أبدا فاصدقوا في الجهاد وعليكم بالصبر وإياكم أن تولوا الادبار فتستوجبوا بذلك النار وألصقوا المناكب ولا تحملوا حتى آمر بالحملة.
قال الراوي: وإن البطارقة لما رأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عولوا على ضربهم شجع بعضهم بعضا وقال لهم بطرس أخو بولس المقتول: اعلموا إنكم أن انكسرتم لا تقوم لكم قائمة بعد هذا أبدا ويملكون بلادكم ويقتلون رجالكم ويسبون حريمكم وعليكم بالصبر ولتكن جملتكم واحدة ولا تتفرقوا وقدموا الفيلة أمامكم والرجالة خلف ظهوركم واستعينوا بالصليب فهو ينصركم.
قال الراوي: وأما عمرو وخالد فانهما قالا نريد من يكشف لنا عن القوم ويعود فوثب الفضل ابن العباس رضي الله عنه وقال أنا فسار حتى قرب من القوم ورأى زيهم وأهبتهم ورأى شعاع البيض والبيارق والرايات كأجنحة النسور فلما رآه القوم قالوا: فارس قد طلع ولا شك أنه طليعة فايكم يبتدره فابتدره ثلاثون فارسا فلما نظرهم ولى كأنه منهزم وركض قليلا حتى بعد ثم لوى عنان الجواد نحوهم وطعن أول فارس والثاني والثالث فدخل رعبه في قلوبهم فانهزموا وتبعهم وهو يصرع فارسا بعد فارس حتى صرع منهم عشرين فارسا فلما قرب من الروم ولى راجعا إلى المسلمين وأعلمهم بذلك فقالوا له: غررت بنفسك يا بن عم رسول الله فقال أن القوم طلبوني وخفت أن يراني الله منهزما فجاهدت باخلاص فنصرني الله عليهم واعلموا أنهم لنا غنيمة أن شاء الله تعالى قال فأقبل عمرو وخالد يرتبان العساكر ميمنة وميسرة وجناحين كما تقدم في اليوم الاول فجعل في الساقة زياد بن أبي سفيان بن الحرث في ألف فارس حول البنين والبنات والاموال وكانت فيهم النساء الاتي تقدم ذكرهن في أجنادين واليرموك وهن عفيرة بنت غفار وأم ابان بنت عتبة أخت هند وخولة بنت الأزور ومزروعة بنت عملوق وسلمة بنت ذراع ولبنى بنت سوار وسلمى بنت النعمان وهند بنت عمرون وزينب الأنصارية فهؤلاء من النساء اللاتي عرفن بالشجاعة فقال لهن خالد با بنات العرب لقد فعلتن فعالا أرضيتن الله ورسوله والمسلمين بها وقد بقي لكن ذكر يتحدث به جيلا بعد جيل وهذه أبواب الجنان قد فتحت لكن وأبواب النيران قد فتحت لاعدائكن وإني أحرضكن إذا جاءت الروم والسودان اليكن فقاتلن عن أنفسكن كما قاتلتن في يوم أجنادين ويوم اليرموك فإن رأيتن أحدا هاربا فدونكن وإياه بالعمد وأشرفن عليه بولده وقلن له إلى أين تولي عن أهلك وولدك وحريمك وحرضن المسلمين على ذلك فقلن أيها الأمير ما يفرحنا إلا أن نموت أمامك يا أبا سليمان لنضربن وجوه الروم والسودان حتى لا يبقى لنا عذر قال فشكرهن على ذلك.
ثم عاد خالد إلى الصفوف وجعل يدور بينها بجواده ويحرض الناس على القتال وهو يقول.
أيها الناس انصروا الله ينصركم وقاتلوا من كفر وأحبسوا أنفسكم في سبيل الله وأصبروا على قتال أعداء الله وقاتلوا عن حريمكم وأولادكم ولا تحملوا حتى آمركم بالحملة ولتكن سهامكم تخرج من كبد قوس واحد فإن السهام إذا خرجت جميعا لم يخل أن يكون فيها سهم صائب واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون واعلموا أنكم لا تلقون بالوجه القبلي مثل هؤلاء اللئام فإنهم حماتهم وبطارقتهم وملوكهم فقالوا: سمعا وطاعة وأقبل خالد ووقف في القلب مع عمرو بن العاص وعبد الرحمن ابن أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقيس بن هبيرة ورافع بن عميرة الطائي والمسيب بن نجيبة الفزاري وذوي الكلاع الحميري وربيعة بن عباس ومالك بن الاشتر والعباس ابن مرداس السلمي ونظائرهم من بقية الأمراء ثم زحفوا بسكينة ووقار فلما رأى الروم ذلك والسودان زحفوا وكانوا ملء الأرض طولا وعرضا فلما التقى الفئتان وتراكم الجمعان وقد أظهر أعداء الله في ذينهم الصلبان والاعلام ورفعوا أصواتهم بالكفر والبهتان فبينا الناس كذلك إذ خرج راهب كبير عليه جبة سوداء وقلنسوة وزنار فنادى بلسان عربي أيكم أمير القوم فيخاطبني ويخرج الي فخرج إليه خالد فقال له: أنت أمير القوم.
قال خالد: كذلك يزعمون ما دمت على طاعة الله وسنة رسوله فإن أنا بدلت أو غيرت فلا طاعة لي عليهم ولا امارة فقال القس اعلم إنكم قد ملكتم بلادا وقدمتم إلى بلاد ماجسر ملك من الملوك أن يتعرض لها ولا يدخلها وإن ملوكا كثيرة أرادوها فرجعوا خائبين وأفنوا أنفسهم عليها وإن النصر لا يدوم لكم وإن الملوك أرسلوني اليكم فإن سمحتم نجمع لكم مالا ونعطي لكل واحد منكم ثوبا وعمامة ودينارا ولك أنت مائة ثوب ومائة عمامة ومائة دينار ولكل واحد حمل من البر وحمل من الشعير ولك عشرة أحمال ولصاحبكم عمرو عشرة آلاف دينار ومثلها ثياب ومثلها عمائم ومائة حمل بر ومائة حمل شعير وارحلوا عنا وأنتم موقرون أنفسكم فاننا عدد الجراد ولا تظنونا كمن لاقيتم من الفرس والروم وأهل الشام والقبط فإن في هذا الجيش من النوبة والبجاوة والسودان والروم وكبار البطارقة والأساقفه ونجمع عليكم ما لا طاقة لكم به من بلاد السودان والواحات وكأنكم بالنجدة قد وردت علينا وإن بقية الروم لم تأت اليكم وإنما أرسلوا من يقاتل عنهم فقال خالد: والله ما نرجع عنكم إلا باحدى ثلاث خصال اما أن تدخلوا في ديننا أو تؤدوا الجزية أو القتال وأما ما ذكرت إنكم عدد الجراد فالله قد وعدنا بالنصر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وأنزله في كتابه وأما ما ذكرت أنكم تعطوننا من الثياب والعمائم فعن قريب نلبس ثيابكم وعمائمكم ونملك بلادكم جميعها كما ملكنا الشام ومصر والعراق واليمن والحجاز والروم فقال الراهب أنا أرجع أخبر أصحابي بذلك فإني قد أتيت من قبل البطليوس صاحب مدينة البهنسا وقد أرسلني إلى صاحب أهناس واتفق الملوك والبطارقة وأرسلوني اليكم وأنا أرجع إليهم وأخبرهم بجوابك ثم أن القس لوى راجعا من حيث جاء فلما رجع إليهم وأخبرهم بذلك كاتبوا ملوكهم على ذلك وأرسلوا جوابهم بالقتال فلما وصلت الكتب تقدمت الروم والسودان وقدموا بين أيديهم الفيلة وأمامهم الرجالة بالقسي والسيوف والدرق والمزاريق فصاح الفضل بن العباس ورفاعة بن زهير المحاربي والقعقاع بن عمرو والتميمي وشرحبيل بن حسنة والمقداد ابن الاسود الكندي ومعاذ بن جبل وقالوا: معاشر المسلمين اعلموا أن الجنان قد فتحت والملائكة قد أشرفت والحور تزينت وأشرفت من الجنان ثم قرأ: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة: 111] ثم رتبوا الصفوف فتقدم خالد وقال اقرنوا المواكب واثبتوا واعلموا أن هؤلاء أكثر منكم بعشرة أمثالكم وأزيد فطاولوهم إلى وقت العصر فإنها ساعة النصر على الاعداء وإياكم أن تولوا الادبار وازحفوا على بركة الله وعونه.
قال الراوي: وتزاحمت السودان والبربر والنوبة والبجاوة فلما تقارب الجمعان رمت أصحاب الفيلة نشابهم فكانت كالجراد المنتشر فقتلوا رجالا وجرحوا أبطالا وخالد تارة يضرب بسيفه في الميمنة وتارة في الميسرة وكان في أصحاب الفيلة من السودان والبربر سواكن يسمونهم القواد شفاههم العليا مشقوقة وبها خزام من نحاس فإذا كان وقت الحرب لا يخرجون القواد إلا إذا حمى الحرب واشتد الطعن والضرب وكانوا سودا طوالا طول كل واحد منهم عشرة أذرع فإذا ارادوا الحرب جعل في كل خزام سلسلة بطرفين في كل طرف واحد من البربر فإذا وقع صلح بين الفريقين والا زحفوا بهم وأطلقوا السلاسل ودفعوا لهم أعمدة من حديد طوالا فيضرب الواحد الفارس والفرس فيقتلها بضربة ومنهم من يركب الفيلة ويقاتل على ظهورها فلما التقى الجمعان خرجت تلك القواد وعلى أجسادهم جلود النمور وفوق اكتافهم مربوطة على صدورهم وفي أوساطهم مثل ذلك وهم عراة الاجساد والرؤوس ليس عليهم غير ما ذكرنا وبأيديهم الاعمدة والرجال يقودونهم بتلك السلاسل والجيوش ينظرون متى يؤمرون بالحملة فلما رأى المسلمون ذلك فمنهم من ثبت ومنهم من جزع قال: وبرز البطريق أخو بولص المقتول وهو راكب على جواد عال وعليه لحاف من جلود الفيلة وقاتل.
قال الراوي: حدثني خالد بن أسلم عن طريف بن طارق وكان من الأزد قال لما فعل البطريق ذلك ولت الأزد من بين يديه منهزمين وإذا بفارس قد أقبل يركض بجواده وهو عاري الجسد حتى قرب من القوم وأنشد يقول:
لقد ملكت يدي سنانا وصارما ** أذل عداة السوء أن جئت قادما

وأتركهم شبه الرخام إذا مشى ** عليه شجاع لا يزال مصادما

والا كأغنام مضين بقفرة ** وأصبح مولاها عن السعي نائما

وقد ملك الليث الغضنفر جمعها ** وأصبح فيها بالمخالب حاطما

قال الراوي: وصاح الفارس أنا ضرار بن الأزور أنا قاتل ملوك الشام أنا ضرار دين الإسلام والمسلط على من يكفر بالرحمن أنا قاتل بولص الكلب ذي الطغيان قال فلما سمع الروم كلامه عرفوه فتقهقروا إلى ورائهم فطمع فيهم وحمل عليهم فقال بطرس من هذا البدوي الذي لم يزل عاري الجسد ويقاتل بالسيف مرة وبالرمح مرة قالوا: هذا ضرار ابن الازور فتحير الملعون وقال هذا قاتل أخي ولقد اشتهيت أن آخذ بثاره ثم عزم على الخروج إليه فسبقه بولص رأس بطارقة الكورة وقال أنا آخذ بثارك ثم حمل على ضرار فتجاولا طويلا وافتركا مليا فما كان أكثر من ساعة حتى طعنه ضرار طعنة صادقة في صدره خرقت الدروع وخرجت من ظهره فانجدل صريعا وعجل الله بروحه إلى النار فقال بطرس هذا جني وليس للانسان أن يقاتل الجن ثم لبس لامة حربه وتعصب بعصابة من اللؤلؤ الرطب ولبس فوق درعه مثل ذلك وخرج يطلب ضرارا فسبقه شذم ادرس أحد بطارقة الكورة وحلف لا يخرج إليه وغيره وحمل على ضرار وقال دونك والقتال فلم يفهم ضرار ما يقول ثم حمل عليه وأخرج صليبا من الذهب كان معلقا في عنقه فضحك ضرار عليه وقال أنت تستعين بالصلبان وأنا استعين بالملك الديان.
ثم أرى كل منهما ما أدهش الناس من الحرب فصاح خالد وبقية الأمراء ما هذه الفترة يا ضرار والجنة قد فتحت لك ولعدوك قد فتحت النار فاستيقظ ضرار وحمل على البطريق وصاحت الروم بصاحبها وصاروا في حرب عظيم وحميت عليهم الشمس وثار الحرب حتى كل منهما الساعدان وعرق تحتهما الجوادان فأشار البطريق إلى ضرار أن يترجل ويترجل البطريق معه شفقة على الجوادين وإذا برأس بطارقة أهناس قد أخرج له جوادا مجللا بالحرير ليركبه فلما نظر ضرار إلى ذلك صاح بجواده أثبت معي هذه الساعة والا أشكوك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فذرفت عين الجواد بالدموع وحمحم وجرى أكثر من جريه المعتاد وتلقى ضرار البطريق وحمل عليه وطعنه بعقب الرمح فأرداه وأخذ جواده وأراد قتله وإذا بكردوس خرج من الروم ومعهم الكلب الكبير شاول أحد بطارقة الأشمونيين وأحاطوا بضرار وكان على رأس شاول تاج من الذهب الأحمر فلما رأى الصحابة الكردوس الذي خرج على ضرار والتاج يلمع على رأسه قالوا لخالد: ما سبب قعودنا عن نصرة صاحبنا وقد أحاطت به الروم فعندها خرج خالد رضي الله عنه في عشرة من خيار قومه وهم الفضل بن العباس بن عبد المطلب وأخوه وعبد الله بن جعفر ومسلم وعلي أولاد عقيل وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن المقداد وقوموا الأسنة وأطلقوا الأعنة وصبر ضرار للروم حتى وصلت إليه الأمراء وقالوا.
أبشر يا ضرار فقد أتاك النصر والفرج وقد ذهب عنك الخوف والجزع فلا تخف من الكفار واستعن بالله الواحد القهار فقال ضرار ما أقرب الفرج من الله والتقت الرجال بالرجال وطلب خالد صاحب التاج والعصابة وضرار مع خصمه فلما راى شاول البطريق المسلمين قد أحدقوا به وما حل بجماعته اندهش وارتعد هذا وضرار مع خصمه وقد أراد الهرب فألقى ضرار نفسه من على جواده وتبعه حتى لحقه ثم رمى الرمح من يده وتواخذا بالمناكب وتصارعا وكان عدو الله كأنه قطعة من جبل وضرار نحيف الجسم غير أن الله أعطاه حولا وقوة فلما طال بينهما العراك ضرب ضرار بيده في بطن عدو الله فقلعه وجلد به الأرض فصاح يستنجد بالبطارقة وتصارخت الروم والسودان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يمهله ضرار دون أن ركب عليه وهو يعج كالبعير فعندها أظهر ضرار سيفه ومكنه من نحره فقتله فزعق زعقة سمعها العسكران فحملت الروم والسودان هذا وضرار قد احتز رأسه وقام عن صدره وهو ملطخ بالدماء ثم كبر المسلمون ودنا الفريقان بعضهم من بعض والتحمت الابطال وقوي القتال وعظم النزال وسال العرق وازورت الحدق وعظمت الرزايا وأظلمت الدنيا ودارت رحى الحرب وقوي الطعن والضرب وضاقت الصدور واشتدت الامور وضاقت المذاهب وقطعت المناكب وما كنت ترى إلا دما فائرا وكفا طائرا وجوادا غائرا هذا وقد زحفت السودان وأصحاب السلاسل ذوو الكفر والطغيان وضربوا بالاعمدة الحديد ويومهم يوم شديد وبانت الشجعان وفر الجبان وبقي حيران وعمرو بن العاص يحرض الناس على القتال ويقول يا أيها الناس ويا حملة القرآن اذكروا غرف الجنان فسر الناس بقوله ونشطوا وصارت السودان يضربون الفارس مع الفرس بالعمد الحديد فيقتلونهما جميعا وكذلك أصحاب الفيلة يرمون بالنشاب ويضربون بالحراب إلى أن جاء وقت العصر وقد قتل من الفريقين خلق كثير وظفر خالد بخصمه شاول لعنه الله وضربه بالسنان في صدره فخرج السنان يلمع من ظهره ووقع على الأرض يخور بدمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار قال: ولما عظم القتال والبلاء قال رفاعة المحاربي وقد انتخب من بني محارب ولبيد ومالك خمسمائة فارس وقصد الفيلة وقال: يا وجوه العرب دونكم وأعينها ودنا من الفيل الأبيض وهو قائدها وهي خمسمائة فيل وتقدم إليه والسيف في يده وهو ينشد ويقول:
يا لك من ذي جثة كبيرة ** لقيت كل شدة خطيرة

اليوم قد ضاقت بك الحظيرة ** حتى ترى ملقى على الحفيرة

قال ثم ضربه بالسيف فولى هاربا ثم برك وكان عليه عدة من السودان في قبة من الأديم فلما سقط الفيل إلى الأرض قام علج عن ظهره وفي يده عمود فضرب به رفاعة فزاغ عنه وضربه رفاعة على عاتقه الايمن فاطلع السيف يلمع من عاتقه الايسر فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فتلاحقت العرب باعجاز الفيلة وصاروا يطعنون الفيلة في أعينها كما ذكرنا فولوا منهزمين قال: وقصد خالد والمقداد وأجواد الأمراء القواد الذين تقدم ذكرهم وطلبوا من الله النصر والثبات وصاروا يأتونهم وهم فارس عن اليمين وفارس عن اليسار فيقتلون مساك السلاسل ثم يمسكون أطراف السلاسل ويطلقون الاعنة فينقاد معهم كالبعير الشارد فياخذون العمود من يده ويقتلونه شر قتلة ولم يزل القوم في قتال ونزال وأهوال حتى جاء الليل وحجز بين الفريقين وقد قتل من الفريقين خلق كثير فأما المسلمون فقد قتلوا منهم أثني عشر ألفا من الملوك والبطارقة خمسة عشر بطريقا وملكا من السودان وغيرها وبات المسلمون يتحارسون إلى الصباح.
قال الراوي: وكان قد اثخن بالجراح جماعة من المسلمين في ذلك النهار وكان المسلمون طائفة يدفنون القتلى وطائفة يداوون الجرحى وطائفة يقرءون القرآن وطائفة يصلون وطائفة نيام من كثرة ما لحقهم من التعب وخالد بن الوليد والزبير بن العوام والمقداد ابن الاسود وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه يدورون حول العسكر إلى الصباح فلما لاح الفجر أذن المؤذنون وصلى عمرو بن العاص بالناس الصبح بسورة الفتح ثم دعوا الله عز وجل أن يرزقهم النصر ثم تبادروا إلى خيولهم فركبوها ورتبوا صفوفهم كما ذكرنا فيما تقدم بالامس فلما فرغ المسلمون من تعبية الصفوف أقبل الأمراء يحرضون الناس على القتال وقد جعلوا على الساقة رافع بن عميرة الطائي والحرث بن قيس ورفاعة بن زهير في خمسمائة فارس.
قال الراوي: قال عبادة بن رافع حدثنا سالم بن مالك عن عبد الله بن هلال وكان في خيل رافع قال لما رتبت الصفوف والتقى الجمعان وكثر القتال وكل واحد اشتغل بنفسه ونحن نذب عن النساء والصبيان والنساء اللاتي تقدم ذكرهن يقاتلن أشد القتال إذ جاءنا كردوس عظيم من البطارقة والسودان والبجاوة ومعهم زهاء من ستمائة فيل وغافلونا ونحن مشغولون بالقتال واقتطعوا قطعة كبيرة من الابل والرجال والنساء والصبيان زهاء من ألف بعير ومائتي امرأة وغير ذلك وكان في ذلك زائد بن رابح البكري وعباد بن عاصم الغنوي ومعهما مائتا فارس فقاتلوا قتال الموت حتى أثخنوا بالجراح وقاتلت النساء بالاعمدة والخناجر فلله در عفيرة بنت غفار وسلمى بنت زاهر ونظائرهما من النساء لقد قاتلن حتى ضربن بالسيف على رؤوسهن وسالت الدماء على وجوههن وهن يقلن الله الله يا نساء العرب قاتلن عن العسكر وعن أنفسكن والا صرتن بأيدي الاعلاج الغلف والسودان فقاتلن قتال الموت وقتل من المسلمين خمسة عشر نفرا ختم الله لهم بالشهادة وساقوا النساء والصبيان.
فرجع فارس إلى خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأعلمهما بذلك وهم في أشد القتال فتصايحت المسلمون وخرج جماعة من الأمراء من وسط المعركة وهم الفضل بن العباس وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وزياد بن أبي سفيان وعبد الله بن أبي طلحة وضرار بن الازور وجماعة من الأمراء وتبعهم ستمائة فارس من العرب من صناديد القوم وأدركوهم عند أول الجبل وهم يريدون جهة الفيوم فعند ذلك زعق ضرار والفضل بن العباس إلى أين يا أعداء الله فتراجعت الروم والسودان عنهم واقتتلوا قتالا شديدا فابتدر ضرار إلى مقدم السودان وطعنه في صدره فاطلع السنان يلمع من ظهره وكذلك الفضل ابن العباس تقدم إلى بطريق عظيم وطعنه في لبته فأطلع السنان يلمع من قفاه فانجدل يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار قال: واستمروا يقاتلون حتى قتلوا مقتلة عظيمة فلما عاينوا ذلك ألقوا ما بايديهم من الغنيمة وولوا وتواثب المسلمون وردوا السبي والحريم وردوا الاسارى وحلوهم وساعدتهم النساء بالاعمدة والسيوف والخناجر فكانت النساء يضربن وجوه الخيل بالعمد فيكبو الجواد بصاحبه فتتعلق المرأة بالفارس وتجذبه إلى الأرض فتجلد به الأرض ثم تضربه فتقتله حتى قتلن جماعة من الروم والسودان والبجاوة وغيرهم فلما رأوا ذلك ولوا منهزمين من بين أيديهم وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا منهم نحو ستمائة اسير من الروم والسودان وزحفوا وقد غنموا أسلابهم وخيولهم.
قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما العسكر فإنهم لم يزالوا في قتال شديد وأمر عتيد وضرب وطعان وقتل رجال وجندلة أبطال وفرسان وقد قامت الحرب على قدم وساق وضربت الاعناق وصالت الشجعان وولى الخبان حيران ودارت رحى الحرب واشتد الطعن والضرب وقطعت المعاصم وطارت الجماجم وحامت طيور المنايا وعظمت الرزايا واشتد الزحام وعظم المرام وضاقت الصدور وعظمت الامور واشتد الغبار وقل الاصطبار وقاتلت الأمراء بالرايات وبربرت السودان بلغاتها ورفعت الروم أصواتها وضربت ببوقاتها وطعنت برماحها ورمت بنشابها وحارت الافكار وعميت الابصار وثار الغبار وأظلم النهار وكان شعار المسلمين يا نصر الله انزل وصبر المسلمون لهم صبر الكرام فلله در الزبير بن العوام والمقداد بن االاسود والفضل بن العباس وعقبة ابن عامر والمسيب بن نجيبة الفزاري ونظائرهم من الأمراء فلقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا وصبروا صبر الكرام.
وأما عمرو وخالد والقعقاع بن عمرو وسعيد بن زيد فلقد كانوا يقاتلون قتال الموت وزحفت الفيلة برجالها وقاتلت الروم بابطالها والسودان بافيالها وقد كانت أصحاب الفيلة تعطف على خيل العرب ويرمون بالنشاب فيخرج كالجراد المنتشر حتى قلعت أعين كثيرة في ذلك اليوم فما كنت تسمع إلا من يصيح وايداه والفيلة تحطم والسودان يرمون الابطال فعندها وثب رفاعة بن زهير المحاربي وأتى إلى خالد وعمرو قال: أيها الأمراء أن دام هذا الامر هكذا هلكنا عن آخرنا قالا فما الرأي يا أبا حازم قال الرأي أن نجمع ثيابنا ونغمسها زيتا ودهنا ونجعلها على رؤوس الرماح ونجعل في أعلاها نارا ثم نأمر رجالا يجمعون القيصوم وغيره ونجعله في غرائر على ظهور الجمال عريا ونشغلهم بالقتال ثم تأتي الفرسان تمانعهم وتساق عليهم الجمال فإنها إذا أحست النار حطمتهم فلا يصبرون على ذلك والمعونة من الله تعالى فاستصوبوا رأيه وأعدوا رجالا لذلك وناوشوهم القتال فلم يكن إلا ساعة حتى تهيأت المكيدة وجمعوا من الفرسان الف فارس وصبغوا تلك الثياب بالدهن والزيت وأطلقوا الينران برؤوس الاسنة وحملوا الغرائر بالقيصوم وغيره وأشعلوا فيه نارا ووضعوا الحراب في أجناب الابل فلما أحست بالحراب في أجسامها والنار في ظهورها فعندها حطمت الروم والسودان فلما رأت الفيلة ذلك طارت عقولها وقطعت سلاسلها وداست قوادها ورمت ما على ظهورها من الرجال وداستهم باخفافها ورجعت خيل الرم وبراذينها وهربت بغالها وذابت قلوب رجالها وضربت الأمراء في الاعداء بسيوفها وطعنت برماحها ورمت بنشابها قال المسيب بن نجيبة ولقد رأينا طيورا أظلتنا في زي النسور وكان الطائر يرفرف بجناحه على وجه الكافر ورأسه ثم يضع مخاليبه في عينيه فيرميه إلى الأرض فلم تكن إلا ساعة بعد صلاة العصر حتى ولت الروم الادبار وركنوا إلى الفرار وتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون حتى جاء الليل وأظلم النهار ووصلت الهزيمة إلى القرية المعروفة بالدير والى اللاهون والى أهناس والى ميدوم وتبعتهم المسلمون الليل كله إلى الصباح وقد تفرق شملهم وشرد جمعهم وأسر منهم جماعة كثيرة نحو خمسة آلاف وقتل منهم ما لا يحصى.
قال رافع بن أزد الجهني لما رجعنا إلى مكان المعركة وجدنا الأرض قد امتلأت من قتلى الروم والسودان والبجاوة وغيرهم واختلط جماعة من قتلى المسلمين بهم ما عرفناهم من الروم إلا أن الروم كان بايديهم صلبان والمسلمون ليس لهم ذلك فميزناهم منهم بذلك وجمعنا جريد النخل والقصب ووضعنا على كل قتيل جريدة أو قصبة وذلك في مكان المعركة ثم جمعناها وحصرناها فإذا الكفار تسعون ألفا وقتل في الجبال والطرقات ما لا يحصى وتفقد المسلمون من قتل منهم فإذا هم خمسمائة وثلاثون رجلا وجمعت المسلمون الغنائم والاموال ثم قسمت وأخرج عمرو منها الخمس وكتب كتابا بالفتح وما جمعه من الخمس واستدعى بالأمير هاشم بن المرقال رضي الله عنه وندب معه ثلاثين رجلا من خيار الجند وأمره بالمسير إلى المدينة وأقام المسلمون بالمرج بعد الوقعة خمسة أيام حتى استراحوا ورجع من كان خلف المنهزمين ثم اجتمعوا إلى عمرو واستأذنوه في المسير إلى الوجه القبلي فأذن لهم وودعهم ودعا لهم وقال يعز علي فراقكم ولو أن أمير المؤمنين لم يأمرني بالمسير ما فارقتكم ثم رجع معه ثلاثة آلاف ومائة وعشرون وكان جملة من قتل ثمانمائة وثمانين ختم الله لهم بالشهادة وقيل ألف وقيل تسعمائة وأربعون على اختلاف الرواة والله أعلم أي ذلك كان.
قال الراوي: ما أخذت في هذا الكتاب إلا على قاعدة الصدق والمعونة من الله تعالى فلما ملكت المسلمون البلاد وأذلت أهل الشرك والفساد وذلك ببركة الصحابة رضي الله عنهم فهم الرجال الابطال والسادة الاخيار والمهاجرون والانصار وأصحاب محمد المختار الذين فتحوا بسيوفهم الامصار وأذلوا الكفار وأرضوا العزيز الغفار وباعوا نفوسهم لله الواحد القهار بجنات تجري من تحتها الانهار.
قال الراوي: لما رجعت المنهزمون إلى الملوك والبطارقة وأخبروهم بذلك وقع الرعب في قلوبهم وحاروا في نفوسهم ولم يدروا ما يدبرون وما يصنعون قال فصعب على بطريق اهناس وعلى صاحب البهنسا ما صنع ببطارقتهما وعولوا على الحصار وجمعوا الآلة وصاروا يخرجون ما يحتاجون إليه وتيقنوا أن لا بد للحرب من أرضهم ووطنوا أنفسهم وكذلك بطارقة الصعيد وملوكه وضاقت نفوسهم مما حل بهم.
قال الراوي: ووصل الكتاب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ففرح بذلك فرحا شديدا وقرأ الكتاب على علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والعباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففرحوا بذلك فرحا شديدا ثم قسمت الغنائم على أهل المدينة وقسم لنفسه كأحدهم رضي الله عنه وكتب جواب الكتاب ودفعه لهاشم و قال له: قل لعمرو يحث الصحابة ويحرضهم على فتح الصعيد.
قال الراوي: وأما عمرو بن العاص رضي الله عنه فإنه لم يرجع إلى مصر حتى قسم الغنائم بين الصحابة وفضل أصحاب الولاء وأهل السابقة ورجع إلى مصر بعد أن جهز العساكر إلى الصعيد.
قال الراوي: ولما فارق عمرو بن العاص خالد بن الوليد والأمراء رضي الله عنهم استشار بعضهم بعضا أي مكان يقصدون فاتفق رايهم أن يسيروا ألف فارس طليعة وأمر عليهم قيس بن الحرث ومعه جماعة من أمرائهم منهم رفاعة بن زهير المحاربي والقعقاع بن عمرو التميمي وعقبة بن عامر الجهني وذو الكلاع الحميري رضي الله عنه وصاروا يسيرون في وسط البلاد وبقية العساكر قريبة منهم فمن أطاعهم وطلب الامان أمنوه وصالحوه ووضعوا عليه الجزية ومن أبى قاتلوه ومن أسلم تركوه وسار خالد ببقية الجيش يريدون أهناس فإنها كانت أعظم مدائن الوجه القبلي بعد الكورة وكانت حصينة آهلة بالخيل والآلة والعدة ولما أحس بطريقها بمجيء الصحابة إليه جمع البطارقة وقد انكسرت جنودهم وخمدت نيرانهم وكلمتهم بانهزام جيوشهم وشاورهم في أمرهم وقال لهم: خذوا أهبتكم وقاتلوا عن حريمكم وأموالكم والا صرتم عبيد للعرب يفعلون بكم ما يختارون وإن شئتم صالحناهم حتى يعلم ما يكون من بطارقته فأجابوه وقالوا: لا نسلم البلاد حتى نغلب ونجمع أموالنا في هذه المدينة الحصينة ونقاتل فإن غلبنا عولنا على الحصار واتفق رأيهم على ذلك فكان الذي أجابهم إلى ذلك خرج بنفسه وأمواله ومن لم يجبهم إلى ذلك أقام وكذلك بطارقة البهنسا منهم من انتقل إلى البهنسا بماله وأولاده ومنهم من أقام ببعض المدائن ممن عولوا على الاقامة والحصار والقتال.
وسار خالد بالجيش حتى قرب من اهناس وبين يديه الطلائع والأمراء وهم يشنون الغارات على السواحل والبلاد فمن خرج إليهم وصالحهم وعقد معهم صلحا صالحوه ولهم الميرة والعلوفة الضيافة ومن أبى دعوه إلى الإسلام فإن أبى طلبوا منه الجزية فإن أبوا شنوا عليهم الغارة حتى وصلوا قريبا من اهناس وبلغ الخبر إلى عدو الله فقال: لا بد من لقائهم وقتالهم حتى أنظر ما يكون من أمرهم ثم خرج إلى ظاهر المدينة قريبا من السور ولم يبعد عنها وكان للمدينة أربعة أبواب فأغلق ثلاثة وفتح الباب الشرقي وأخرج الخيام والسرادقات وأكثر من العدة والزينة وقال أن دخلنا المدينة من غير قتال طمعت العرب في جانبنا ثم فرق بطارقته وعرض جيشه فكانت عدتهم خمسين ألفا وقال اثبتوا وقاتلوا عن حريمكم ولا تكونوا أول جند أخذوا وأقاموا يتأهبون للقتال وينتظرون قدوم الصحابة رضي الله عنهم.
قال الواقدي: وأما خالد فلما قرب من أهناس استدعى بالزبير بن العوام وضم إليه ألف فارس من الأمراء وغيرهم وأمره بالمسير ثم استدعى بالفضل بن العباس وضم إليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بميسرة بن مسروق العبسي وضم إليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بزياد بن أبي سفيان وضم إليه ألف فارس وسار على أثره ثم استدعى بمالك الأشتر النخعي وضم إليه ألف فارس وسار على أثره وسار خالد ببقية الجيش.
قال: حدثنا عون بن سعيد قال: حدثنا هاشم بن نافع عن رافع بن مالك العلوي قال كنت في خيل الزبير بن العوام رضي الله عنه لما توسطنا البلاد وتعرضنا لاهلها وشننا الغارة على السواد فوجدنا قطيعا من الغنم ومعها رعاة فلما أحسوا بنا تركوها ومضموا فسقناهم ثم سرنا قليلا وإذا بنساء وصبيان مشرفة ونصارى من القبط وغيرهم فلما رأونا فروا وكان معهم عشرون فارسا من العرب المتنصرة من جذام ومعهم بطريق من البطارقة عليه الزينة الفاخرة فلما عاينونا فروا من بين أيدينا فأطلقنا الغارة عليهم فما كان غير بعيد حتى أدركناهم وقبضنا عليهم وسالناهم فأجابوا بأنهم من قرى شتى وانهم يريدون اهناس فعرضنا عليهم الإسلام فامتنعوا فأردنا قتلهم فمنعنا من ذلك الزبير رضي الله عنه وقال: حتى يحضر الأمير خالد ويفعل ما يريد قال: وسرنا حتى قربنا من أهناس ورأينا المضارب والخيام والسرادقات فأعلن الزبير بالتهليل والتكبير وكبر المسلمون حتى ارتجت الأرض لتكبيرهم وخرجت الروم إلى ظاهر خيامهم ينظرون الينا وعدو الله مارنوس بن ميخائيل ينظر الينا والحجاب والنواب وأرباب الدولة من البطارقة حوله وعليهم أقبية الديباج وعلىرؤوسهم التيجان المكللة وبأيديهم العمد المذهبة والسيوف وهم محدقون به عن يمينه وشماله قال فلما أقبلنا عليهم تصايحوا ورطنوا بلغتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم واستقلونا في أعينهم ولما قرب الزبير من القوم هز الراية وأنشد يقول:
أيا أهل أهناس الطغاة الكوافر ** ويا عصبة الشيطان من كل غادر

أتتكم ليوث الحرب سادات قومها ** على كل مشكول من الخيل ضامر

فإن لم تجيبوا سوف تلقون ذلة ** ونقتل منكل كل كلب وفاجر

قال الراوي: ثم نزلنا قريبا من القوم فلم يكن غير قليل حتى أقبل الفضل بن العباس رضي الله عنه وحوله السادات الاماجد فكبر وكبروا معه وهز الراية وأنشد يقول:
أيا أهل أهناس الكلاب الطواغيا ** أتتكم ليوث الحرب فاصغوا مقاليا

اقروا بأن الله لا رب غيره ** والا تروا أمرا عظيما مدانيا

اقروا بأن الله أرسل أحمدا ** نبيا كريما للخلائق هاديا

قال الراوي: ثم نزل قريبا من أصحابه فلم تكن إلا ساعة حتى أقبل الأمير ميسرة بن مسروق العبسي وكبر هو والمسلمون فأجابه المسلمون فهز الراية وأنشد يقول:
أتينا لاهناس بكل غضنفر ** على كل صاهل من الخيل أجرد

فإن هم أطاعونا شكرنا فعالهم ** والا أبدناهم بكل مهند

ونخرب أهناسا ونقتل أهلها ** إذا خالفوا دين النبي محمد

قال الراوي: ونزل قريبا من الفضل ولما كان غروب الشمس أقبل زياد بن أبي سفيان رضي الله عنه بمن معه وكبر هو والمسلمون وهز الراية وأنشد يقول:
هلموا إلى أهناس يا آل هاشم ** ويا عصبة المختار نسل الاعاظم

ودونكم ضرب السهام وبشدة ** وقطع رؤوس ثم فلق جماجم

لننصر دينا للنبي محمد ** نبي الهدى المبعوث من آل هاشم

قال الراوي: وبات المسلمون رضي الله عنهم يقرءون القرآن ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم وهم يتحارسون حتى لاح الفجر ثم اقبل المقداد رضي الله عنه باصحابه وكبر هو والمسلمون ولما قرب من أصحابه هز الراية وأنشد يقول:
أنا الفارس المشهور في كل موطن ** وناصر دين للنبي محمد

لعلل ننال الفوز عند الهنا ** فيافوز من أضحى نزيل المؤيد

ونقتل عباد الصليب جميعهم ** بأسمر خطى وعضب مهند

قال الراوي: ونزل بإزء الفضل وتكلم الأمراء المتقدم ذكرهم قال: ولما رأونا ظنوا أن ليس وراءنا أحد وقعدنا ذلك اليوم ولم نكلمهم ولم يكلمونا فلما كان اليوم الثاني عند طلوع الشمس إذا بالغبار قد طلع والقتام قد ارتفع من خيول عادية وعليها فوارس حجازية وكبر المسلمون ورفعوا راياتهم الإسلامية وأعلامهم المحمدية فسمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصياح فخرج الأمراء إلى لقائهم وإذا في أوائلهم خالد بن الوليد رضي الله عنه والى جانبه غانم بن عياض الاشعري وأبو ذر الغفاري وأبو هريرة الدوسي واسمه عبد الرحمن وبقية الأمراء والمهاجرون والانصار فلما رأت الروم ذلك من قريب دخل الرعب في قلوبهم ونزل اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قريبا من أهناس كل منهم في مركزه وأقاموا ذلك اليوم فلما كان اليوم الثالث جمع خالد الأمراء وأصحاب الرايات واستشارهم فيمن يمضي إلى بطريق أهناس فقال المقداد أنا له فقال له خالد: أنت له فخذ من شئت فأخذ معه ضرار بن الازور وميسرة بن مسروق العبسي وقال لهم خالد: أدعوه إلى الإسلام فإن أبى فالجزية فإن أبى فالقتال واحرصوا على أنفسكم.
قال الراوي: وساروا إلى القوم حتى قربوا من العسكر وهم يدوسون بخيولهم أطناب الخيام والسرادقات فصاحت بهم الحجاب من تكونون فقالوا: نحن رسل فأعلموا البطريق بذلك فأمر بأحضارهم فلما حضروا بين يديه صاحت بهم الحجاب والنواب أن قبلوا الأرض للملك فلم يلتفتوا إليهم ولم ينزلوا إلا على باب سرادق الملك ووقفوا على الباب فأذن لهم في الدخول فدخلوا وأمسكوا لجم خيولهم فاراد الغلمان أن يمسكوها فامتنعوا من ذلك فأشار إليهم البطريق فتركوهم ثم دخلوا عليه فإذا هو جالس على سرير من الذهب مرصع بالدر والجوهر وحوله البطارقة جلوس والحجاب والنواب وأرباب الدولة قيام وبأيديهم السيوف والاعمدة والرماح فلما رآهم تغير لونه واندهش وأذن لهم بالجلوس فقالوا: لا نجلس على هذا الفرش فإنه حرام علينا فأمر بالبسط الحرير فرفعت ثم فرش أنطاعا من الصوف ثم أشار إليهم فقالوا: لا نجلس حتى تنزل عن سريرك قال فرطنت الروم فأشار إليهم فسكتوا وأرادوا أن ينزعوا منهم سيوفهم فامتنعوا من ذلك فتركوهم وكلمهم الملك فأبوا حتى ينزل عن سريره فنزل وكلمهم بلسان عربي وسألهم عن حالهم فأجابوا أنهم لا يفارقونه حتى يسلم هو وقومه أو يؤدوا الجزية أو القتال فامتنع عن ذلك وقال اذهبوا والموعد غدا للقتال وخرجوا من عنده على ذلك ورجعوا إلى خالد وأعلموه بذلك فتأهب الأمراء للحرب فلما أصبح خالد صلى بأصحابه صلاة الصبح وبادروا للحرب والقتال وصاحوا النصر النصر يا خيل الله اركبي وللجنة اطلبي فركب المسلمون خيولهم وركزوا راياتهم واصطفوا ميمنة وميسرة وقلبا وجناحين وخالد في وسط الجيش وعلى الساقة ميسرة بن مسروق العبسي ومالك الاشتر النخعي في خمسمائة فارس من المهاجرين والانصار.
قال الراوي: فلم تكن غير ساعة حتى برزت الروم وأظهرت صلبانها.
قال: حدثنا رافع بن مالك عن عباد بن مازن عن محمد بن مسلمة الانصاري رضي الله عنه قال لما أقبلت رايات القوم عددناها فإذا هي خمسون صليبا تحت كل صليب ألف فارس فكان أول من افتتح الحرب بطريق عليه ديباجة حمراء وعلى رأسه بيضة معصب عليها بعصابة من جوهر فبرز إليه فارس من خثعم يقال له زيد بن هلال: فقتله ثم طلب البراز فبرز إليه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يمهله أن ضربه بالسيف على عاتقه الايمن فخرج يلمع من عاتقه الايسر فانجدل عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وطلب البراز فبرز إليه فارس من الروم فقتله ثم آخر فقتله وطلب الميمنة وشوش صفوفهم وقتل أبطالهم ثم عاد إلى القلب ثم خرج من بعده شرحبيل بن حسنة وفعل كفعله ثم حمل من بعده الفضل بن العباس ثم حمل من بعده العباس بن مرداس ثم من بعده أبو ذر الغفاري ثم تبارد المسلمون بالحملة فلما رأى الروم ذلك ايقظوا أنفسهم في عددهم وعديدهم وتظاهروا البيض والدرع ولم يزل القتال بينهم حتى توسطت الشمس في قبة الفلك.
قال الراوي: فعندها حمل خالد بن الوليد وغاص في الميمنة فقلبها على الميسرة وغاص في الميسرة فقلبها على الميمنة وقاتلت العرب قتالا شديدا حتى جاء الليل وحجز بين الفريقين وبات المسلمون يتحارسون وتفقد المسلمون بعضهم بعضا فإذا قد قتل منهم اثنان وأربعون رجلا ختم الله لهم بالشهادة الاعيان منهم ربيعة بن عامة الداودي وزيد بن ربيعة المحاربي وغانم بن نوفل المحاربي وصفوان بن مرة اليربوعي والبقية من أخلاط الناس وقتل من أعداء الله ألف وثلثمائة وأزيد ولما خلا عدو الله بأصحابه تذاكروا ما وقع في الحرب وصعب عليهم ما لقوه من العرب فأراد الملك الصلح فغلب البطارقة عليه وأعدوا للحرب والقتال فلما أصبح الله الصباح وبارق الفجر لاح صلى المسلمون صلاة الصبح ثم اصطفوا على ظهور خيولهم واصطفت الروم وبرزت البطارقة وأظهروا زينتهم وبرز بطريق عظيم يقال له صاحب طنسا: وعليه لامة حربه وطلب البراز فبرز إليه الفضل بن العباس فتجاولا وتعاركا وتخالفا بضربتين فكان السابق بالضربة الفضل بن العباس فضربه بالسيف على رأسه فوصل إلى أضراسه فانجدل صريعا يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وبرز بطريق ثان فقتله ولم يزل كذلك حتى قتل أربعة من خيارهم فحملت الروم حملة واحدة وحمل المسلمون وحمل ضرار بن الازور رضي الله عنه وأظهر شجاعته وحمل مذعور بن غانم الاشعري والفضل بن العباس ومحمد بن عقبة بن أبي معيط ومسلم وجعفر وعلي أبناء عقيل وعبد الله بن جعفر وسليمان ابن خالد وعبد الرحمن بن أبي بكر وتجاهرت الأمراء وعظم الخطب وكثر الطعن والضرب وثار القتام حتىصار النهار كالظلام وتراشقوا بالنبال واشتد القتال وقطعت المعاصم وطارب الجماجم فما كنت ترى إلا جوادا غائرا ودما فائرا واشتد الكرب وكثر الطعن والضرب وسال العرق واحمرت الحدق وجال خالد كالاسد وأرغى وأزبد فعند ذلك رفع غانم بن عياض طرفه إلى السمار وقال: يا عظيم العظماء أنزل علينا نصرك كما أنزلته علينا في مواطن كثيرة وانصرنا على القوم الكافرين فامنت جماعة من الأمراء على دعائه فما كان غير بعيد حتى رأيت الرجال الكفار يتساقطون لا ندري بماذا يقتلون فلما رأى الروم ذلك فروا إلى الباب وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون والحجارة تأخذهم من أعلى السور وهم لا يلتفتون إلى ذلك ودخلوا إلى الأبواب ودخل اللعين وصال عليهم خالد وجماعة من الأمراء واقتطعوا قطعة من الروم نحو خمسة آلاف وكان المسلمون قريبين من اللعين فاقتتلوا عند الباب ورموهم بالحجارة فقتلوا منهم نحو من ثلاثة آلاف وخرج من الباب نحو من ألف فارس وحملوا ودخل الباقون وأغلقوا بابهم وطلعوا على الاسوار واشتد القتال والحصار ورموا بالحجارة والنبال حتى فرق الليل بينهم.
قال الراوي: وأقام المسلمون على حصار أهناس ثلاثة أشهر وفي كل يوم يناوشونهم بالقتال والاسوار رفيعة والأبواب منيعة وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كل يوم يشنون الغارات حتى يصلوا إلى أطراف الكورة.
قال الراوي: واقام المسلمون على حصار اهناس ثلاثة أشهر وفي كل عنهم المدد وضاقت أنفسهم وطمعت فيهم الصحابة ثم أن خالدا استشار اصحابه ماذا يصنعون وقد أعياه فتح الباب فقال له المرزبان رضي الله عنه: وكان من مرازبة كسرى وقد أسلم وخرج إلى الجهاد وحبس نفسه لله عز وجل وهو المقتول بالبهنسا قريبا من البلد شرقي البحر اليوسفي في وقعة صاحب طنجة ذات الاعمدة وسيأتي ذكر ذلك في موضعه أن شاء الله تعالى فقال المرزبان اننا كنا في بلاد الفرس إذا حاصرنا مدينة ولم نقدر على فتحها أخذنا زيتا وكبريتا ووضعناه في صناديق من خشب وجعلنا لها أعوادا تحملها رجال ورجال يذبون عنهم إلى أن يصلوا إلى الباب أو إلى قريب منه ويجعلون في الصناديق نارا ويولون فتعلق النار في الأبواب ويذوب الحديد فتفتح الأبواب وتعلق النار في الحطب والخشب والحجارة فتهدمها فقال خالد: نفعلها أن شاء الله تعالى فلما أصبحوا فعلوا ذلك وأسرعوا في جمع ما ذكرنا ووضعوه في صناديق وجعلوا في أطرافها أعوادا طوالا من أسفلها وحملتها الرجال وخرج خلفهم الفرسان يقاتلون والمرزبان أمامهم يعلمهم كيف يصنعون وهم مستترون بالدرق والحجف والحجارة والنبال تتساقط عليهم من أعلى السور حتى وصلوا إلى أول باب من أبواب المدينة وهو الباب الشرقي وهو أعظم أبوابها.
فلما قربوا من الباب رفعوا الصناديق على الباب وألقوا النار في الزيت والكبريت ووضعوها وانقلبوا فلم يكن أسرع من لحظة حتى تعلقت النار بحجارة الباب والاخشاب والحديد وثارت النار إلى أعلى السور حتى وصلت إلى البرج فسقط البرج بمن فيه من الروم وهلك منهم جماعة كثيرة وتبادرت المسلمون إلى الباب وملئوا قرب الماء وأطفئوا تلك النار ودخلوا من الباب وقصدوا قصر الملك وكان حصينا على أعمدة من الحجارة المنحوتة وكانوا أغلقوا أبوابه ففعلوا به كما ذكرنا ولما رأى الملعون ذلك لم يطق أن يصبر وأمر بفتح الباب وصاح الامان ومعه جماعة من حشمه وخدمه وبطارقته فعرضوا عليهم الإسلام فابوا فأمر خالد بضرب أعناقهم فمن أسلم تركوه ومن أبى قتلوه واستغاثت بهم السوقة والرعية وقالوا: مغلوبون فمن أسلم تركوه ومن بقى على دينه ضربوا عليه الجزية وهدموا دورا وأماكن حتى صارت تلالا وغنم المسلمون أموالا كثيرة من أواني الذهب والفضة والفرش الفاخرة ووضعوا فيها عبادة بن قيس قيما ومعه ثلثمائة من المسلمين وخرجوا بظاهر المدينة ولم يبق إلا من أسلم ومن وضعت عليه الجزية وعمروا بها مسجدا ولما فرغ خالد من ذلك جمع الغنائم وأخرج خمسها وأرسله إلى عمرو بن العاص يرسله إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المدينة وأرسل لعمرو بن العاص سهمه ولاصحابه المؤمنين المقيمين بمصر ونواحيها وأقام خالد بعد ذلك باهناس هو وجماعته من الأمراء اربعين يوما واستدعى خالد بعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه وأضاف إليه ميمون بن مهران وضم إليه ألف فارس وأمرهم أن ينازلوا أول بلاد البطليموس لعنه الله وينازلوا أهل الكورة وإذا وصل إلى قيس ابن الحرث يأمره بالمسير إلى قريب البهنسا ويقاتل من يقاتله ويسالم من يسالمه ويصالح من يصالحه حتى يأتيه المدد ثم أرسل في أثره غانم بن عياض الاشعري رضي الله عنه وضم إليه ألف فارس فيهم الفضل بن العباس والمسيب بن نجيبة الفزاري وأبو ذر الغفاري والمرزبان الفارسي وكذلك جعفر ومسلم وعلي وعبد الله بن المقداد وولد خالد سليمان ومحمد بن طلحة وعمرو بن سعد بن أبي وقاص وشرحبيل بن حسنة كاتب وحي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لهم خالد: سيروا حتى تصلوا إلى مدينة البهنسا وأنا في أثركم ما لم يحصل لي ولاصحابي مانع وادعوا القوم إلى الإسلام فإن أجابوكم فلهم ما لنا وعليهم ما علينا ومن أبي فالجزية ومن أبى فالحرب والقتال ونازلوا المدائن وأقرنوا المواكب ولا تسيروا إلا يدا واحدة وفرقوا الكتائب وكونوا قريبين بعضكم من بعض غير متباعدين فإذا وقعت كتيبة منكم بما لا طاقة لها به تبعت النفير وثبتوا هممكم وأخلصوا نياتكم وقووا عزائمكم فإذا وصلتم إلى البهنسا التي هي دار ملكهم ومحل ولايتهم فأرسلوا إلى الملك وادعوه إلى الإسلام فإن اطاع فاتركوه في ملكه وإن أبى فالجزية عن يد وهم صاغرون وإن ابى فالسيف حكم حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين وبلغني أنها مدينة كثير أهلها وإنها كثيرة الخيل وحولها مدائن وبلاد وقرى ورساتيق فمن سالمكم وصالحكم فصالحوه ومن قاتلكم فقاتلوه وعليكم بالحزم واخلاص النية وصدق العزيمة قال الله تعالى في كتابه المكنون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] ثم استدعى بالمغيرة بن شعبة رضي الله عنه وكان معه زياد الاكبر أبو المغيرة جد زياد الذي هو بقرية ديروط بقرب طنبدا وسيأتي ذكر زياد بن المغيرة وأصحابه هناك أن شاء الله تعالى عند وقعة الدير واستدعى بسعيد ابن زيد أحد العشرة رضي الله عنهم وأبان بن عثمان بن عفان وجدد عليهم الوصية وودعهم.
قال الراوي: وسار عدي بن حاتم الطائي وميمون حتى وصلا ميدوم وما حولها فوجدوا قيس بن الحرث قد صالح أهل تلك الأرض وعقد لهم صلحا وأقرهم بالجزية ما عدا جماعة وكذلك أهل برنشت بعد قتل بطريقهم وكذلك أهل تلك البلاد إلى دهشور ونادى في ذلك الاقليم بالامان وجبوا له أموالا عظيمة على الصلح والجزية وعبر جماعة من المسلمين إلى البر الشرقي وهم رفاعة بن زهير المحاربي وعقبة بن عامر الجهني وذو الكلاع الحميري وألف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وشنوا الغارات من العقبة التي هي قريب من قبلي حلوان على تلك القرى والبلاد فمن صالحهم صحالحوه ومن أبى قاتلوه حتى وصلوا إلى اطفيح ثم إلى البرنيل وكان هناك بطريق يعرف بصول فخرج إليهم اهلها فصالحوهم على الجزية وعبروا من هناك وسار عدي بن حاتم حتى اجتمع بقيس بن الحرث قريبا من القرية المعروفة بقمن ونزل ميمون هو وجماعته بالقرية المعروفة بالميمون فقال له قيس بن الحرث: لا تنزل هنا حتى يفتح لنا ما حولها من البلاد ويأتي خبر من الأمير خالد بن الوليد ويأذن لنا بما يريد فأجاب الىذلك ونزل عدي بأصحابه بالقرية المعروفة ببني عدي ثم سار وترك ابنه حاتما واخوته وأحاطوا بالقرية وسار قيس واصحابه حتى وصلوا إلى القرية المعروفة بنوس والبلد المعروف بدلاص فخرج إليهم أهلها بعد قتل بطريقهم وصالحوهم وتوسطوا البلاد على ساحل البحر حتى نزلوا ببا الكبرى وغانم بن عياض على أثرهم وكان بها دير عظيم يعرف بدير أبي جرجا وكان له عيد عظيم يجتمعون إليه من سائر البلاد فوافق قدوم الصحابة قريبا من عيدهم فجاءهم رجل من المعاهدين وأعلمهم بذلك فانتدب قيس ابن الحرث رضي الله عنه عنه ومعه جماعة من أصحابه خمسمائة فأمر عليهم رفاعة بن زهير المحاربي وأمرهم أن يشنوا الغارة على الدير قال: وكان جماعة من رؤساء الكورة من الروم والقبط والخيول المسومة حول الدير يحرسونهم وهم في أكلهم وشربهم وزينتهم وبيعهم وشرائهم فما احسوا إلا والخيل على رؤوسهم فما قاتلوا إلا قليلا وانهزموا ونهب أصحابه جميع ما في السوق من أثاث وغيره وساقوا الغنائم وأحاطوا بالدير فقاتلوا من على الدير فقطعوا السلاسل والاقفال وتعلق جماعة من الصحابة على الحيطان ودخلوا الدير واخذوا منه أمتعة وأثاثا وأواني من ذهب وفضة وأسروا مائة اسير وساروا حتى توسطوا البلاد وكان بالقرب من البحر اليوسفي قرى كثيرة وبلدان وكان فيها مدينة تعرف بسحاق وكان بها بطريق من عظماء بطارقة البطليوس فلما بلغه قدوم الصحابة جمع جنوده إلى البلد المعروف بأقفهس والى البلدين المعروفين بشمسطا واليسلقون والى البلد المعروفة بنشابه فلما بلغه قدوم الصحابة جمع الخيل والروم والفلاحين والنصارى ستة آلاف وخرج يكشف بهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيس بن الحرث خرج إليه أهل ببا الكبرى وما حولها من السواد وكذلك أهل هوريت وعقد لهم صلحا وساروا فلما قربوا من القرية المعرفة الآن ببني صالح فبينما هم سائرون إذا بالغبار قد طلع وانكشف عن ستة صلبان تحت كل صليب ألف فلما رآهم المسلمون لم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم واقتتلوا قتالا شديدا وثار الغبار وقدحت حوافر الخيل الشرار والتقى الجمعان واصطدم الفريقان فلله در رفاعة بن زهير المحاربي وعقبة بن عامر الجهنى وعمار بن ياسر العبسي وميسرة بن مسروق العبسي.
قال الراوي: وقاتلت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتالا شديدا وصبروا صبر الكرام وكان عدو الله لاوي بن أرمياء صاحب شيزا فارسا شديدا وبطلا صنديدا فجال وصال وقتل الرجال فعندها برز إليه فارس من المسلمين يسمى سنان بن نوفل الدوسي فقتله فخرج إليه عمار بن ياسر العبسي فتجاولا وتعاركا وتضاربا وتطاعنا ووقع بينهما ضربتان وكان السابق بالضربة عمار فطعنه بالرمح في صدره فاطلع السنان يلمع من ظهره فانجدل عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار فعندها غضب الروم لأجل قتل صاحبهم وحملوا على عمار في كبكبة من الخيل فعقروا الجواد من تحته وتكاثروا عليه فقتلوه وقتل من المسلمين خمسة عشر رجلا.
قال: حدثنا سنان بن نوفل عن مالك عن غانم اليربوعي وكان في خيل رفاعة بن زهير المحاربي قال نحن في القتال وقد عظم النزال ووطنا أنفسنا على الموت ورفاعة يحرض الناس على القتال وهو ينشد ويقول:
يا معشر الناس والسادات والهمم ** ويا أهيل الصفا يا معدن الكرم

فسددوا العزم لا تبغوا به فشلا ** ومكنوا الضرب في الهامات والقمم

وخلفوا القوم في البيداء مطرحة ** على الثري خمشا بالذل والنقم

قال الواقدي: وجعل يحرضهم ويقول يا معشر السادات والاقيال ابشروا فإن الروم لم تقم لهم أبدا وأبشروا بالحور والولدان في غرفات الحنان وإن الجنة تحت ظلال سيوفكم قال رفاعة فبينما نحن في أشد القتال إذا بغبرة قد لاحت وانقشعت وانكشف الغبار عن ألف فارس في الحديد غواطس عليهم الدروع الداودية وعلى رؤوسهم البيض العادية المجلية معتقلين بالرماح الخطية راكبين الخيول العربية فتأملناهم فإذا هم سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعبد الله بن طلحة وأخوه محمد وزياد بن المغيرة والوليد ومحمد بن عتبة ومحمد ابن أبي هريرة وجماعة من الصحابة والأمراء وأبناؤهم رضي الله عنهم وكان غانم بن عياض الاشعري جهزهم طليعة قدامه فلما رأونا كبروا وكبرنا لتكبيرهم وخاضوا في أوساطنا وطلب كل واحد منهم بطريقا من البطارقة فقتله فلما رأت الروم ذلك ولوا الادبار وركبوا إلى الفرار وتبعهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلون وينهبون ويأسرون إلى بلدة سبزا وما حولها من السواد إلى سلقوس فأسروا منهم نحو خمسمائة أسير وقتل منهم ثلاثة آلاف وهرب الباقون إلى القرى والبلاد ولما قتل بطريق شندا خرج إليهم أهلها من النصارى والسوقة وعقدوا معهم صلحا واتفقوا على أداء الجزية وكذا من حولهم من القرى ونزل هناك عمرو بن الزبير وجماعة من المسلمين وسار قيس بن الحرث أمام القوم حتى نزل قريبا من طنبدا والبلد المعروف باسنا وكان بها بطريق يسمى بولياص بن بطرس وكان كافرا لعينا فخرج إلى لقاء المسلمين هو وجماعته ومعه ميرة وعلوفة فكان ذلك مكيدة منه وعقد مع المسلمين صلحا ووافقهم على أداء الجزية عن بلده وعن اسنا وكانت تحت حكمه وارتحل قيس بن الحرث ومن معه وتأخر زياد بن المغيرة ونزل بالقرية المعروفة بدهروط فعقد مع أهلها صلحا ونزل سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد وجماعة قريبا من البلد ومنهم من نزل عند القرية المعروفة بأطينة وصار جماعة يدخلون البلد ليلا ثم يعودون خوفا من المكيدة ولا حذر من قدر الله عز وجل.
قال الواقدي: وكان المتخلفون خمسمائة فارس فجعلوا يسيرون على جانب البحر ويشنون أي يغيرون على أهل السواد فمن صالحهم صالحوه ومن أسلم تركوه وسار قيس ابن الحرث حتى نزل بالبلد المعروف الآن بالقيس وبه سميت وكان فيها بطريق من بطارقة البطليوس وكان من بني عمه اسمه شكور بن ميخائيل والله أعلم باسمه فدخل أهل السواد كلهم البلد وحاصروها حصارا شديدا نحو شهرين ثم أعانهم الله تعالى وحرقوا بابا من أبوابها ففتحت ودخلوا اليها وكان ذلك بعد وقعة جرت بينهم في مكان يعرف بكوم الانصار فهزموهم هناك وحاصروهم وفتحوا المدينة وقتلوا البطريق ونهبوا الاموال وأخذوا جميع ما فيها بعد أن دعوهم إلى الإسلام فامتنعوا من ذلك ثم شنوا الغارات على ما حولها من البلدان والبلد المعروف بماطي ثم إلى الكفور فخرج إليهم بطريق كان ابن عم المقتول بدهشور لعنه الله وأخوه بطرس وعقدوا مع المسلمين عقدا على الصلح وأعطوا الجزية وسارت العرب إلى البلد المعروف بالدير وسملوط وما حولها من القرى ونزل زهير وجماعة من العرب بالمكان الذي يعرف بزهرة وأما بقية السواد الذي حول البهنسا شرقا وغربا فلما تحققوا مجيء العرب هربوا إلى البهنسا بأموالهم ونسائهم وذراريهم وتركوا البلاد جميعها خرابا وكان البطليوس لعنه الله أرسل إليهم بطارقته فحملوهم إلى البهنسا واستعد للحصار وجمع عنده ما يحتاج إليه مدة الحصار.
قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما عدو الله بولياص صاحب طنبدا فإنه كاتب البطليوس يقول اين ما صالحت العرب إلا مكيدة وإني أريد الغدر بهم فجهز لي جيشا من البطارقة على أن أظفر بجماعة من أبطال المسلمين ونأخذ بثأر من قتل منكم قريبا قال: وكان عدو الله كل يوم تأتيه الاخبار من العرب المتنصرة ومن غيرهم من أهل البلاد والسواد بما جرى للعرب وبأخبار من قتل من البطارقة وأخذ البلاد والاموال فحمل هما عظيما ولم يظهر ذلك لاحد من بطارقته وإنما كان يطيب قلوبهم ويقول بلدنا حصينة وإن قاتلونا قاتلناهم وإن غلبونا دخلنا بلدنا فلو جاءنا أهل الحجاز جيمعهم ما وصلوا الينا ولو أقاموا عشرين سنة والله غالب على أمره وناصر دين الإسلام ومذل الكفرة اللئام فلما بلغ البطليوس مكاتبة عدو الله بولياص فرح بذلك فرحا شديدا قال: واستدعى ببطريق من بطارقته يسمى روماس وضم إليه خمسة آلاف فارس من الروم والنصارى وغيرهم من أهل القرى وأمرهم أن يسيروا تحت ظلام الليل فما جاء نصف الليل حتى وصلوا إلى طنبدا ودخلوا إلى بولياص ففرح بذلك فرحا شديدا واستعدوا للهجمة على المسلمين قال: وأصبح المسلمون وقد صلوا صلاة الصبح وإذا بالخيل قد أقبلت إليهم فنادوا النفير هاجمونا وغدرونا فركب المسلمون خيولهم وساروا إلى قريب الدير وإذا بالروم مقبلين في عشرة آلاف فارس وكان أعداء الله قد كمنوا كمينا قريبا من قناطر كانت هناك ونهر يجري فيه الماء من النيل في أوانه عميق غربي الدير قريب من البلد.
قال الواقدي: ولما رأى المسلمون لمعان الاسنة والبيض وخفقان الاعلام وبريق الصلبان الذهب والفضة تبادروا إلى خيولهم فركبوا وأعلنوا بالتهليل والتكبير والصلاة على البشير النذير وأقبلوا مسرعين نحوهم ولم يفزعوا من كثرتهم وحرض بعضهم بعضا على القتال وكانوا قد سبقوا إلى شرذمة من المسلمين كانوا نزولا قريبا من الدير ووضعوا فيهم السيف وأحاطوا بهم وجالوا واتسع المجال إلى قريب من دهروط فخرج سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد وعامر بن عقبة بن عامر وشداد بن أوس وجماعة من الصحابة رضي الله عنهم واشتد القتال وعظم النزال وعميت الابصار وقدحت حوافر الخيل الشرار ولمعت الاسنة وقرعت الاعنة ودهشت الانظار وحارت الافكار وأحاطوا بالمسلمين من كل جانب فلله در سليمان بن خالد بن الوليد وعبد الله بن المقداد لقد قاتلا قتالا شديدا وأبليا بلاء حسنا ولله در زياد بن المغيرة لقد كان يقاتل تارة في الميمنة وتارة في الميسرة وتارة في القلب وأحاط بهم أعداء الله من كل جانب وقد صار المسلمون بينهم كالشامة البيضاء في جلد البعير الاسود وصبروا لهم صبر الكرام وكان أكثر المسلمين قد أثخن بالجراح واشتد الكفار هذا والمسلمون قد انتدبوا أبطالا وجعلوها خلف ظهورهم وقاتلوهم قتالا عظيما هذا وأعداء الله قد أحاطوا بهم وحجزوا بينهم وبين البلد وقاتل سليمان وأصحابه قتالا شديدا ووطنوا أنفسهم على الموت وشجع بعضهم بعضا وصار سليمان بن خالد يقول الله الله الجنة تحت ظلال السيوف والموعد عند حوض النبي صلى الله عليه وسلم وقاتل قتالا شديدا حتى أثخن بالجراح وقتل من المسلمين نحو مائتين وعشرين قريبا من التل الذي هو غرب البلد المذكور وما قتل الواحد منهم حتى قتل من أعداء الله خلقا كثيرا.
قال الواقدي: ولما رأى المسلمون وسليمان بن خالد ما حل بأصحابه صار تارة يكر في الميسرة وتارة يكر في الميمنة وأعانه بالحملة عبد الله بن المقداد وبقية الصحابة وتقدم سليمان بن خالد وطعن بطريق اسنا طعنة صادقة فأرداه عن جواده وغاص في القلب.
قال: حدثنا أوس بن شداد عن علقمة بن سنان عن زيد بن رافع قال كنت في الخيل صحبة سليمان بن خالد وقد حجزنا المشركين وتقهقروا من بين أيدينا ولم نشعر أن لهم كمينا إذ خرج الكمين علينا وقاتلناهم قتال الموت وقتل منهم جماعة نحو ألفي فارس وقتل سليمان بن خالد من الصناديد والبطارقة من خيارهم نحو ثلاثين فارسا وكذلك عبد الله بن المقداد فأحاط بسليمان بن خالد رضي الله عنه كردوس نحو الفي فارس وعقروا جواده من تحته فضرب بالسيف فيهم حتى قطعت يده اليمنى فتناول السيف بيده اليسرى فضرب بها حتى قطعت فأحاطوا به فلما تيقن بالقتل التفلت وقال يعز عليك يا خالد بن الوليد ما حل بولدك هذا في رضا الله عز وجل وكان قد طعن في صدره نحو عشرين طعنة حتى قل حيله وسقط إلى الأرض ثم تنفس وقال الساعة نلقي الأحبة ولما رآه عبد الله بن المقداد على ذلك المصرع صاح لا حياة بعدك يا أبا محمد والملتقى في جنات عدن ثم غاص يقاتل فأحاطوا به واشتبكت عليه الاسنة وضرب ضربات كثيرة في وجهه وهو يقطع الرماح ويمسح الدم عن وجهه حتى سقط به الجواد وصاح واشوقاه اليك يا مقداد ثم تبسم وقال مرحبا ثم مات وايقنا كلنا بالموت وإن القيامة هناك وإذا بغبرة قد لاحت وانكشفت عن رايات إسلامية وعصائب محمدية وفي أوائل القوم القعقاع بن عمرو التميمي والمسيب بن نجيبة الفزاري وسمرة بن جندب والفضل بن العباس وزياد بن أبي سفيان وبنو هاشم وبنو عبد المطلب وسادات الأوس والخزرج وغانم بن عياض الاشعري ومن معه من الأمراء والسادات فلم يمهلوهم دون أن حملوا عليهم حملة رجل واحد حتى أجلوهم وقتل البطريق بولياص لعنه الله ومعه بطريق البطليوس وانهزمت الروم واتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون حتى بلغت الهزيمة إلى البحر اليوسفي ورموهم في البحر وغرق منهم جماعة كثيرة وقتل منهم في المعركة نحو أربعة آلاف واسروا نحو الف ومائتي أسير وهرب منهم إلى البطليوس جماعة واختفوا إلى الليل ودخلوا لبطليوس وأعلموه بذلك فضاقت عليه الدنيا وضاق صدره وحار في أمره واستعد للقاء المسلمين.
قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما أهل طنبدا وأهل اسنا وكانوا لم يخرجوا ولم يقاتلوا فإنهم لما وردت عليهم الاخبار ومعهم البطارقة سألوا بطريقهم القتال وكان نصرانيا ولم يكن روميا وكان اسمه لوص وبه سميت البلد فأبى فلما انهزم البطارقة وخرج أهل طنبدا وأهل اسنا من السوقة والرعية وأولادهم وغيرهم وبكوا في وجوههم وقالوا: نحن قوم رعية وكنا مغلوبين على أمرنا فانا أهل ذمتكم ورعيتكم قالوا: بشرط أن تدلونا على من هربوا اليكم فأجابوهم إلى ذلك وصاروا يأخذون المسلمين ويدخلون الدور والمساكن ويقبضون على الروم ويسلمونهم إلى المسلمين وكان النصراني يقبض على الرومي ويأتي به إلى المسلمين حتى قبضوا من طنبدا واسنا نحو من ألف وخمسمائة رجل من المطأمير والابيار التي كانوا يحبسون فيها الاسارى من المسلمين وغيرهم ولما اجتمعت الاسارى من الروم والنصارى أمر غانم بن عياض بضرب رقابهم على تل هناك يعرف بالكوم ورجعت المسلمون إلى مكان المعركة فلما عاينوا القتلى ورأوا سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد وعبيدين الداري بكوا عليهم وعلى من قتل معهم من الأمراء رضي الله عنهم وحزنوا عليهم حزنا شديدا وأنشد عمار بن ياسر ينعي سليمان بن خالد وعبد الله بن المقداد ومن معهما بقوله:
يا عين أذري الدمع منك الصبيب ** ثم اندبي يا عين فقد الحبيب

وانعي لمقتول غدا في الفلا ** مجندلا وسط الفيافي غريب

وابكي سليمان ولا تغفلي ** فأمره والله أمر عجيب

قد كان لا يفكر كل العدا ** أن سل من غمد لسيف قضيب

وتحذر الاعداء من بأسه ** لو أنهم أعداء رمل الكثيب

فيا حمام الأيك نوحي إذا ** على فتى قد كان غصنا رطيب

وأعلمي بما جرى خالدا ** لعله يبكي بدمع صبيب

وأخبري المقداد من بعده ** بأن عبد الله أضحى سليب

بل واندبي الاخيار من بعدهم ** وكل قرم للمعالي مصيب

لا يلتقي البطليوس خيرا ولا ** أجناده أبناء أهل الصليب

قد كمنوا جيشا لنا عامدا ** يوم الوغى من كل كلب مريب

وحق من أعطى لنا نصره ** في كل واد ثم فتحا قريب

لنأخذن الثأر من جمعهم ** جهرا ونطفي من فؤاد لهيب

قال الواقدي: وإن غانما رضي الله عنه جمع الشهداء ودفنهم في ثيابهم ودروعهم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يوم القيامة وجراحاتهم تقطر دماء اللون لون الدم والريح ريح المسك».
قال الواقدي: وأقام غانم رضي الله عنه بعد أن دفن الشهداء قريبا من التل والأمراء يشنون الغارات على السواحل وعدى بن جابر بن عبد الله الانصاري وأبو أيوب والمسيب بن نجيبة الفزاري في ألف فارس فأغاروا على أهل شرونة فخرج إليهم بطريق يعرف بصندراس الجاهل وبطريق أهريست في خمسة آلاف فارس واقتتلوا قتالا شديدا عند سفح الجبل فبلغ الخبر غانم بن عياض الاشعري فأرسل إليهم كتيبة أخرى صحبة بن المنذر والفضل بن العباس والمرزبان في ألف فارس فلما رأى الروم ذلك وقع الرعب في قلوبهم وكان بينهم حروب عظيمة ثم أن الفضل بن العباس قصد البطريق الجاهل وضربه ضربة هاشمية على رأسه فقطع الخودة والبيضة والرفادة إلى أن سمع خشخشة السيف في أضراسه فكبر وكبرت المسلمون لتكبيره فسقط عدو الله يخور في دمه وعجل الله بروحه إلى النار وبئس القرار وكان الفضل بن العباس فارسا شديدا وبطلا صنديدا فغاص في وسط المشركين وفتك فيهم والمرزبان حمل على بطريق شرونة فقتله وحمل ابن المنذر على بطريق أهريت فقتله فلما رأى الروم ذلك ولوا الادبار وركنوا إلى الفرار وتبعتهم المسلمون يقتلون ويأسرون ينهبون إلى المكان المعروف بالدير وأهريت وغرق منهم خلق كثير وقتل منهم ألف وخمسمائة فارس وأسر منهم ألف وخمسمائة وتحصن منهم جماعة من الروم والنصارى في مدينة الجاهل وكانت حصينة فحاصرها المسلمون سبعة ايام وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران وأخرجوهم من البيوت وأخرجوا تلك المدينة إلى يومنا وخرج إلى المسلمين نصارى من شرونة وأهرينت وعقدوا مع المسلمين صلحا وأعطوا الجزية وأنزلوا مرة الكلبى في مائتين من أصحابه وغيرهم وابن عمرو بن العاص في المكان المعروف ببناء خالد في مائتي فارس وعبر المسلمين البحر ونزل عامر بالعرب في مائتي فارس قريبا من طنبدا واسنا وببا القرية وارتحل غانم بن عياض رضي الله عنه ببقية الجيش ولما تكاملت المسلمون أرسل بين يديه المسيب بن نجيبة الفزاري والعباس بن مرداس السلمي والفضل بن العباس الهاشمي وعامر بن عقبة الجهني وزياد بن أبي سفيان بن الحرث في ألف وخمسمائة فارس فساروا إلى مكان يعرف بالجرنوس وكان هناك قلعة مرج للملك البطليوس وكان في زمن الربيع ينزل هناك بالخيام والمضارب حول القلعة وتجتمع عنده البطارقة ويقيم أشهرا ثم ينزل على الاقليم ثم يعود إلى البهنسا.
قال الواقدي: وأرسل لوص إلى البطليوس يطلب منه جيشا صحبته بطريق من بطارقته فأرسل إليه بطريقا كافرا لعينا اسمه شلقم وبه سميت البلد التي هي قريب من البهنسا وكان الجيش عشرة آلاف فارس والله أعلم.
قال: حدثنا مسلم بن سالم اليربوعي عن شداد بن مازن عن طارق بن هلال أنه كان في خيل العباس بن مرداس السلمي قال بينما نحن نسير إذ راينا غبرة قد ثارت وكان ذلك وقت الضحى فتأملناها فانكشف عن عشرة أعلام وعشرة صلبان من الذهب الأحمر كل صليب يلمع كأنه كوكب فتأهبنا للحملة وتأهبوا لنا فلم يمهلونا دون أن حملوا علينا وحملنا عليهم وأحاطوا بنا وقاتلت الروم قتالا شديدا ورطنوا بلغتهم وأعلنوا بكلمة كفرهم وصبرنا لهم صبر الكرام وقاتلنا قتال الموت فلله در غانم بن عقبة والمسيب بن نجيبة الفزاري والفضل بن أبي سفيان لقد قاتلوا قتالا شديدا وعصب الفضل رأسه بعصابة حمراء وكذلك فعل زياد بن أبي سفيان بن الحرث كما كان يصنع عمهما حمزة وقاتلا قتال الموت فلم تكن إلا ساعة وقد قوي الحرب والقتال حتى أشرف علينا الأمير غانم بن عياض الاشعري مع بقية الجيش فقوي قلبنا وكبرنا فأجابونا بالتهليل والتكبير فتقدم الفضل بن العباس إلى بطريق شلقم وكان فارسا شديدا وعليه ديباجة مفصصة بالذهب وفي وسطه منطقة بالذهب مرصعة بالجواهر وقد عصب رأسه بعصابة من الجواهر وبيده عمود من الذهب طوله ثلاثة أشبار وأزيد وهو تارة يضرب بالسيف وتارة يضرب بالعمود فلما رآه الفضل ظن أنه يريده فحمل عليه الفضل وهو ينشد ويقول:
يا أيها الكلب اللعين الطاغيا ** ومن أتى لجيشنا معاديا

أبشر لقد وافاك ليث ضاريا ** بحد سيف في عداه ماضيا

كان له الرب العظيم واقيا ** من كل كلب إذ يكون طاغيا

قال فلم يفهم ما يقول الفضل وحمل عليه وتعاركا وتجاولا وضرب الفضل رضي الله عنه فحاد عنها وعطف عليه وانتزع العمود من يده وضربه ضربة هاشمية قرشية أبان بها رأسه عن بدنه ونظر إليه لم يسقط فعاد عليه وهو جثة بلا رأس فتلقاه فارس من المسلمين اسمه زهير فوجده مكلبا بكلاليب في سرجه فنزع الكلاليب فسقط عدو الله كالطود بعد أن تضمخ تاجه ومنطقته دماء فقال له الفضل: أن السلب لي فخذه لك فقد وهبتك إياه فقال: لا أعدمنا الله مكاركم يا بني هاشم وعطف على لوص فقتله وقتل كل أمير بطريقا غيره وحملت المسلمون حملة رجل واحد فبددوا شملهم فولوا منهزمين بين أيديهم واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون وينهبون إلى أن وصلوا إلى البحر اليوسفي وألقوهم في مكان قريب من شاقولة فسميت القرية بذلك وتحصنت جماعة بقلعة المرج فأحاط بها المسلمون وحرقوا الأبواب وهدموا الجدران وأستخرجوا ما هناك وقتلوا من الروم مقتلة غظيمة نحوا من ثلاثة آلاف وأسروا نحوا من ألف وقتل من المسلمين ثمانية وأربعون رجلا من أعيانهم سيف الانصاري رضي الله عنهم أجمعين ودفن هو وأصحابه بمكان الوقعة وكان زياد بن المغيرة وجماعته نزولا في أماكنهم قريبا من طنبدا كما ذكرنا حول البلد المعروف بدهروط وكان زياد صديقا للأمير سليمان بن خالد بن الوليد فكتب كتابا للأمير خالد بن الوليد يعزيه في ولده سليمان ويقول:
يا خالد أن هذا الدهر فجعنا ** في سيد كان يوم الحرب مقداما

مجندل الفرس في الهيجا إذا اجتمعت ** وللصناديد يوم الحرب خصاما

لا يملك الضد من أبطالنا أملا ** أن حاز ساعده القصاص صمصاما

يا طول ما هزم الاعدا بصارمه ** أنالهم منه تنكيسا وارغاما

كأنه الليث وسط الغاب إذ وردت ** له العدا وعلى الاشبال قد حامى

يا عين جودي بفيض الدمع منك دما ** بل واندبي فارسا قد كان ضرغاما

والسيد الفرد عبد الله قد حكمت ** به المنايا وحكم الله قد داما

نحم الفتى العلم المقداد خير فتى ** قد كان في ملتقى الاعداء هجاما

قال الواقدي: فلما وصل الكتاب إلى خالد بن الوليد كان قريبا من الدير ببقية الجيش وهو ينفذ السرايا وأهل البلاد يأتونه بما صالحوه عليه من المال وغيره وقد جهز عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عمر بن الخطاب وعقبة بن نافع الفهري والزبير رضي الله عنهم بألف فارس إلى الفيوم وسيأتي ذكر ذلك في موضعه أن شاء الله تعالى فلما ورد الكتاب على خالد سقط إلى الأرض وخر مغشيا عليه ثم أفاق واسترجع وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ثم قال: اللهم أني احتسبت سليمان اليك اللهم اجعله فرطا وذخرا وأعقبني عليه صبرا وأعظم لي بذلك أجرا ولا تحرمني الثواب برحمتك يا أرحم الراحمين ثم قال: والله لآخذن فيه ألف سيد من ساداتهم ولأقطعن ساداتهم وفرسانهم وانني أرجو أن آخذ بثأره إن شاء الله تعالى ولأقتلن البطليوس شر قتلة لعلي أشفي بذلك غليل صدري وحرارة كبدي وليكونن على يدي خراب دياره وانهزام جيوشه وزوال ملكه وهطلت مدامعه على وجنته أحر من الجمر ثم جعل يسترجع ويقول:
جرى مدمعي فوق المحاجر منهمل ** وحر فؤادي من جوى البين يشتعل

وهام فؤادي حين أخبرت نعيه ** فليت بشير البين لا كان قد وصل

لقد ذوب الاحشاء وأجرى مدامعي ** صبيبا وعن نار الفؤاد فلا تسل

سأبكي عليه كلما أقبل المسا ** وما ابتسم الصبح المنبر وما استهل

وكان كريم العم والخال سيدا ** إذا قام سوق الحرب لا يعرف الوجل

أحاطت به خيل اللئام بأسرهم ** وقد مكنوا منه المهند والأسل

وعيشك تلقاهم صراعا على الثرى ** عليهم يسوق الوحش والطير محتفل

فوا أسفا لو أنني كنت حاضرا ** بأبيض ماضي الحد في الحرب مكتمل

وحق الذي حجت قريش لبيته ** وأرسل طه المصطفى غاية الأمل

لأقتل منهم في الوغى ألف سيد ** إذا سلم الرحمن واتسع الأجل

قال الواقدي: وأقبلت الأمراء يعزون خالدا ومدامعهم تفيض من عيونهم ويقولن أعظم الله لك أجرا وأعقبك عليه صبرا وجعله لك غدا في المعاد ذخرا والله لقد عدمنا القوى وقد أبيد القلب من حشاشتنا واكتوى ونحن لقتله ذاهلون: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] وكذلك يعزون المقداد في ولده عبد الله وبلغ الخبر عمرو بن العاص بمصر وهو مقيم بها فكتب لهما كتابا بالتعزية وبلغ الخبر المدينة لعمر بن الخطاب فاسترجع هو وبقية الصحابة مثل علي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وطلحة بن عبيدالله ومن كان حاضرا من الصحابة بالمدينة الطيبة رضي الله عنهم وكتبوا إلى خالد والمقداد كتابا يعزونهما فلما وصل الكتاب إلى خالد والمقداد اطمأنا لما عليهما من الصبر وما لهما من الاجر والثواب.
قال الواقدي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما البطليوس لعنه الله فإنه لما تحقق مجيء العرب إلى مدينة البهنسا فتح خزائن الاموال وفرق المال والسلاح والعدة من الملبوس والدروع وغير ذلك وفرق على البطارقة وعلى غيرهم من الجند وكان هناك بيت مقفل كما ذكرنا فيه صفة العرب وأسماؤهم فأمر بفتحه وهو يظن أن فيه مالا مدخرا فمنعه القسوس والرهبان من ذلك فأبى ففتحه فلم يجد فيه إلا صفة العرب وأسماءهم كما ذكرنا أول الكتاب فنظر لذلك ودخل الكنيسة وجلس على سريره وجمع حوله البطارقة فاستشارهم في أمره فقام شيخ كبير راهب وكان مطاعا عنده مسموع الكلام كبير السن وكان عمره مائة وعشرين سنة فقام وعليه جبة سوداء وعلى رأسه قلنسوة وفي يده عكازه من الآبنوس ملبسة بالعاج والذهب فقرب من الهيكل وتكلم بكلام لا يفهم ثم قال بعد ذلك يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية قد كانت دولتكم قائمة وكلمتكم مسموعة ما دمتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتعدلون في الرعية وتأخذون للمظلوم من الظالم وتنصفون الضعيف من القوي وتواسون الفقير ولا تمدون أيديكم إلى شيء من أموال الناس وتهابون الزنا وكانت الدولة لكم وقلوب الرعية منجذبة إليكم وداعية لكم وكان الملك فيكم ولما لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر وظلمتم الرعية وجرتم في الاحكام وحكمتم بغير الحق ولا تأخذون للضعيف حقه من القوي ومددتم أيديكم إلى أموال الرعية وفشت فيكم المعاصي فتغيرت قلوب الرعية ومدوا ايديهم بالدعاء عليكم ودعاء المظلوم مستجاب وكثرة الظلم خراب فيوشك أن تنزع هذه النعمة من أيديكم وتعود إلى غيركم بكثرة ذنوبكم وشؤم معاصيكم وبدعاء المظلومين عليكم فلأجل ذلك سلطت عليكم العرب فملكوا بلادكم وقتلوا رجالكم ونهبوا أموالكم وسكنوا منازلكم واستولوا على معاقلكم فتيقظوا من غفلتكم وذبوا عن حريمكم وأموالكم ولا تمكنوا العرب من جانبكم وهذه مقالتي لكم جميعا فلما سمع البطليوس لعنه الله كلام القس وما تكلم به التفت إلى بطارقته وجماعته ونوابه وقال هل سمعتم ما قال أبوكم.
قالوا: سمعنا قال فما عندكم من الرأي قالوا: نحن معك وبين يديك ونقاتل العرب ولا نطمعهم فينا كما طمعوا في غيرنا وإن غلبونا استعددنا للحصار وعندنا من الميرة والعلوفة ما يكفينا عشر سنين وأزيد وبلدنا حصين ولا نسلم أنفسنا وإلا يكون علينا عارا عند الملوك قال فشكرهم البطليوس على ذلك ووثب قس اخر وكان يناظر ذلك القس في المعرفة واستخرج كتابا معلقا كان عنده في صندوق من الآبنوس مقفل باقفال من الفولاذ وقال: يا أهل دين النصرانية وبني ماء المعمودية اسمعوا ما نعته لكم العلماء والكهان والحكماء أنه يبعث نبي في آخر الزمان يسمى محمد بن عبد الله من بني عدنان يموت ابوه وأمه ويكفله جده وعمه يبعثه الله نبيا إلى جميع البشر مولده بمكة ودار هجرته طيبة ثم يقيم اعواما ويتوفاه الله تعالى ثم يتولى الأمر من بعده رجل يسمى أبا بكر وتزداد العرب به فخرا ويجهز العساكر إلى الشام ثم لم يلبث إلا أياما قلائل ويتوفاه الله تعالى ويتولى الامر من بعده الرجل الاصلع الاحور المسمى بعمر وهو صاحب الفتوح ومصبح الاعداء بأشأم صبوح تفتح على يديه الامصار وبيعث سراياه إلى سائر الاقطار وانا نجد في الكتب القديمة أن هذه المدينة تفتح على يد رجل أسمر شجاع غضنفر فارس شديد وبطل صنديد يسمى خالد بن الوليد فإن سمعتم قولي وقبلتم فاعقدوا مع العرب صلحا فإن الدولة لهم ودينهم الحق ولو قاتلهم أهل المشرق والمغرب غلبوهم ببركة الله وببركة نبيهم محمد.
قال فلما سمع البطارقة كلامه غضبوا غضبا شديدا وأرادوا قتله فمنعهم البطليوس من ذلك و قال له: كأنك خفت من سيوف العرب وأنا أعلم أن الرهبان والقسوس لا قلوب لهم لانهم ليس لهم أكل إلا العدس والزيت والليمون والاشياء الرديئة ولا يعرفون اللحم فلأجل ذلك ضعفت قلوبهم فلولا مقامك من قديم الزمان ورؤيتك للملوك القدماء لبطشت بك ولئن عدت إلى مقالتك هذه لأقتلنك شر قتلة قال فسكت القس الراهب وخرج البطليوس من وقته وساعته وجلس في قصره ذي الاعمدة ثم استدعى ببطارقته وخلع عليهم ورفع لهم الاعلام والصلبان وعرض عليه جيشه فإذا هم ثمانون ألفا غير السوقة المشاة فسر بذلك سرورا عظيما ثم استدعى ببطريق من بطارقته وخلع عليهم ورفع لهم الأعلام والصلبان وعرض عليه فإذا هم ألفاً غير السوقة والمشاة فسر بذلك سروراً عظيماً. ثم استدعى ببطريق من بطارقتته يدعى قابيل وكان لا يقطع أمرا دونه فخلع عليه ودفع له الثمانين ألفا وأمره بملاقاة العرب ثم استشار خواص مملكته في الاقامة في البلد أو الخروج إلى ظاهرها فقال له ذوو الرأي من بطارقته: أيها الملك إنك إذا أقمت في البلد استضعفوا رأينا وأمرنا وإذا كنت بجانب المدينة لا تجد العرب أن تصل الينا ونجعل البلد خلف ظهرنا ونقاتل من خارج الأبواب ويساعدنا من فوق الابراج فإذا عظم الامر فلا ندخل المدينة إلا من أمر عظيم فاستصوب رأيهم ثم إنه أمر الفراشين أن يخرجوا الخيام والسرادقات والقباب بظاهر المدينة وأخرجوا له سرادقا عظيما سعته سبعون ذراعا وارتفاعه مثل ذلك على أعمدة من الخشب المصفح بالذهب والفضة وهو من الحرير الملون الازرق والأحمر والاخضر والابيض والاصفر والاسود ومقضب بقضبان الذهب والفضة مرصع باللؤلؤ وفيه تصاوير من داخله ومن خارجه من جميع أجناس الطير والوحوش والكواكب وفرش فيه من الفرش وبسط الحرير الملون ووضع فيه المساند والوسائد والانطاع وأطناب السرادقات حرير ملون بأوتاد من عاج وآبنوس في حلق من ذهب وفضة وعلق فيه قناديل وسلاسل من ذهب وفضة ووضع فيه سريرا من خشب الساج المنقوش المصفح بالذهب الوهاج على قوائم بزمامين من ذهب وفضة طوله سبعة أذرع وعرضه مثل ذلك وارتفاعه مثل ذلك يصعد إليه بدرج من خشب مصفح بصفائح من ذهب وفضة وعليه فرش من حرير ووسائد ومساند ونمارق وحوله ثمانين كرسيا مصفحة بالخشب الآبنوس يجلس عليها أرباب الدولة وأصحاب الصولة وضرب حوله من الخيام والسرادقات ما لا يوصف له عد.
قال الراوي: حدثنا جماعة من الصحابة ممن شهد الفتح وعاين السرادقات أنه لما هرب الملعون ودخل المدينة وكان السرادق منصوبا مقابل الباب البحري المعروف بباب قندوس أمر بطريقا من بطارقته أسمه سمعان أن ينصب سرادقه الذي وهبه له عند باب توما وهو الباب القبلي وأمر بطريقا اسمه اصطافين أن ينزل في الجانب الشرقي قريبا من القناطر على ساباط معقود على أعمدة من الحجارة فأمره أن ينزل ومعه عشرة آلاف فارس حول القلعة قال هبار بن أبي سفيان أو سلمة بن هاشم المخزومي ما نزلنا على مدينة من مدائن الشام ولا رأينا أكثر عددا ولا أكثر زينة من مدينة البهنسا ولا أقوى قلوبا منهم وأكثروا من الصلبان ونصبوا السرادقات والمنجنيقات على الاسوار وأسبلوا على الاسوار جلود الفيلة المصفحة بصفائح الفولاذ ورتبوا الرماة والمجانيق والسهام وغير ذلك.
قال الراوي: هذا ما جرى لهؤلاء وأما الأمير عياض بن غانم الاشعري رضي الله عنه فإنه لما قرب من البهنسا استشار أصحابه مثل أبي ذر الغفاري وأبي هريرة الدوسي ومعاذ بن جبل وسلمة بن هاشم المخزومي ومالك الاشتر النخعي وذي الكلاع الحميري رضي الله عنهم ومعهم ألفان من أصحابهم وأمرهم بالنزول في الجهة الشرقية وقال لهم: أن قاتلوكم قاتلوهم ونازلوا القلعة حتى تأخذوها وعبر الأمير عياض من الجهة البحرية ومعه أصحاب الرايات والأمراء والطليعة من هؤلاء السادات وهم الفضل بن العباس وأخوه عبيدالله بن العباس وشقران وصهيب ومسلم وجعفر وعلى أولاد عقيل بن أبي طالب وعبد الله بن جعفر وزياد بن أبي سفيان وتتابعت خلفهم السادات وأصحاب المروءات مثل نعيم بن هاشم بن العاص وهبار بن أبي سفيان وعبد الله بن عمرو الدوسي وسعيد بن زبير الدوسي وحسان بن نصر الطائي وجرير بن نعيم الحيري وسالم بن فرقد اليربوعي وسيف بن أسلم الطائفي ومعمر بن خويلدة السبكي وسنان بن أوس الانصاري ومخلد بن عون الكندي وابن زيد الخيل ومثل هؤلاء السادات اصحاب الرايات رضي الله عنهم وتتابعت الكتائب يتلو بعضها بعضا وعبروا إلى الجانب الغربي فبينما هم سائرون وإذا بعدو الله قابيل قد أقبل بالبطارقة المتقدم ذكرهم فلما التقى الجمعان عند سفح الجبل تحت المغارة اشار إلى أصحابه فأمسكوا عن المسير وتقدم إلى رابية عالية والى جانبه رجل من العرب المتنصرة وأمره بأن ينادي برفيع صوته قربوا إلى البطريق رجلا منكم ذا خبرة بكلمة فوثب إليه جرير الحيري وأتى إلى عياض وقال: أيها الأمير أتأذن لي أن أكلمه قال: نعم أن طلبوا الصلح ورفعوا القتال صالحناهم حتى يحضر الأمير خالد بن الوليد ويفعل أمره وإن أرادوا القتال قاتلناهم واستعنا بالله تعالى عليهم وهو حسبنا ونعم الوكيل.
قال الراوي: فعندها سار حتى وقف بازاء البطريق و قال له: سل حاجتك فقال له: أأنت أمير القوم قال: لا ولكني متكلم عن الأمير فقال له: لم تركتم بلاد الشام والنعم العظام وأتيتم إلى هذه البلاد وكنتم في بلاد الحجاز تقاسون جوعا وعريا فذقتم فواكه الشام وثمار الحجاز وخيرات اليمن فلم يكفكم ذلك حتى أتيتم إلى مصر وقهرتم القبط وأتيتم إلى بلاد الفرس وقهرتم ملوكها ولم تكتفوا حتى أتيتم الينا وهجمتم علينا في بلادنا وقتلتم ابطالنا ونهبتم أموالنا ونحن نتغافل عنكم ونهمل أمركم حتى غلظت شوكتكم وقصدتم مدينتنا التي هي دار ملكنا ومحل ولايتنا ولقد طلبها من قبلكم من الفراعنه والجبابرة والقبط والقياصرة والاكاسرة والجرامقة ورجعوا خائبين وأنتم هجمتم علينا وقتلتم رجالنا فقولوا لنا ما الذي تريدون منا فإن كنتم تريدون مالا وترجعون عنا قمت أنا عن الملك بذلك وترحلون عنا وتردون لنا ما ملكتم من بلادنا وإن الملك لا يخالف لي أمرا فاخبروني ما الذي تريدون وما الذي تطلبون فقال له جرير: أفرغت من كلامك فقال له: نعم قال له جرير: خذ جوابك أما قولك كنا في ضيق حال فهو كما ذكرت ولكن أنعم الله علينا بالإسلام وهو أول نعمة أمرنا بالجهاد وإن الله تعالى أباح لنا أموال المشركين ما داموا محاربين وأمرنا أن نجاهدكم حتى تؤدوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون أو تسلموا أو تقاتلوا: {حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يونس: 109] وأما قولك المال فليس هو غرضنا ولا متاع الدنيا شهواتنا وإن بلادكم عن قريب تكون لنا وأموالكم غنيمة لنا نتقاسمها.
قال الواقدي: فلما سمع البطريق الكلام غضب غضبا شديدا وقال أنا كفء لكم دون الملك ثم أمر أصحابه بالحملة على جرير قال فما لويت عنان جوادي إلا والخيل قد ركبتني فعندها تواثب المسلمون واقتتلوا قتالا شديدا وتبادرت الرجال وزمجرت الابطال وزحفت الافيال وتراشقوا بالنبال وتضاربوا بالنصال وتطاعنوا بالعوال والتقى الجمعان واصطدم الفريقان واشتد النزال وكثرت الاهوال وتقاتلت الفرسان وولى الجبان حيران فلله در المغيرة بن شعبة وعون بن ساعدة وعبادة بن تميم والفضل بن العباس رضي الله عنه لقد قاتلوا قتالا شديدا وأبلوا بلاء حسنا ولم يزل القتال يشتد من ارتفاع الشمس إلى الغروب فعندها وثب عبد الله بن جعفر إلى قابيل وضربه ضربة فحاد عنها عدو الله وولى هاربا وحمته جماعة نحو ثلثمائة فارس ولم يزل الفريقان في قتال ونزال إلى أن غابت الشمس وافترق الجمعان وقد قتل من المسلمين نحو خمسين رجلا ختم الله لهم بالشهادة وقتل من الروم نحو ألفي فارس قال: واجتمعت الروم حول قابيل حين ولى هاربا إلى أن وصل إلى البطليوس فلما رآهم وبخهم وقال لهم: بأي وجه تفرون من العرب ولم تصبروا لهم وقد فشلتم وجزعتم فقال له قابيل: أيها الملك ليس الخبر كالعيان وهؤلاء ليسوا بأنس وإنما هم جن في القتال ولولا الاجل حصين ما عدت اليك فغضب الملك وقال اسكت قد تمكن رعب العرب من قلبك وستنظر ما يكون من أمرهم ثم بات في قلق شديد حتى أصبح الصبح ولم يأمر قومه بالركوب وقال امهلوا حتى أنظر ما يكون من أمرهم.